/م219
التّفسير
الجواب على أربعة أسئلة:
الآية الأولى تُجيب عن سؤالين حول الخمر والقمار ( يسألونك عن الخمر والميسر ) .
( الخمر ) في اللّغة يقول الرّاغب بمعنى الغطاء وكلّ ما يُخفي شيئاً وراءه هو ( خمار ) بالرّغم من أنّ الخِمار يُستعمل في الاصطلاح لغطاء الرّأس بالنسبة للمرأة .
وفي معجم مقاييس اللّغة ورد أنّ الأصل في كلمة ( الخمر ) هو الدلالة على التغطية والاختلاط الخفي وقيل للخمر خمر ،لأنّه سبب السكر الّذي يغطي على عقل الإنسان ويسلبه قدرة التمييز بين الحسنة والقبيح .
أمّا في الاصطلاح الشرعي فيأتي ( الخمر ) بمعنى كلّ مايع مسكر ،سواء اُخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو شيء آخر ،بالرّغم من أنّ الوارد في اللّغة أسماء مختلفة لكلّ واحد من أنواع المشروبات الكحوليّة .
( الميسر ) من مادّة ( اليُسر ) وإنّما سمّي بذلك لأنّ المُقامر يستهدف الحصول على ثروة بيُسر ودون عناء .
ثمّ تقول الآية في الجواب ( قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما ) .
ومع الالتفات إلى أنّ المجتمع الجاهلي كان غارقاً في الخمر والقمار ،ولذلك جاء الحكم بتحريمهما بشكل تدريجي وعلى مراحل ،كما نرى من اللّين والمداراة والاُسلوب الهاديء في لحن الآية إنّما هو بسبب ما ذكرناه .
في هذه الآية وردت مقايسة بين منافع الخمر والميسر وأضرارهما وأثبتت أنّ ضررهما وإثمهما أكثر من المنافع ،ولاشكّ أنّ هناك منافع ماديّة للخمر والقمار أحياناً يحصل عليها الفرد عن طريق بيع الخمر أو مزاولة القمار ،أي تلك المنفعة الخياليّة الّتي تحصل من السكر وتخدير العقل والغفلة عن الهموم والغموم والأحزان ،الاّ أنّ هذه المنافع ضئيلة جدّاً بالنسبة إلى الأضرار الأخلاقيّة والاجتماعية والصحيّة الكثيرة المترتّبة على هذين الفعلين .
وبناءً على ذلك ،فكلّ إنسان عاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه كثيراً من أجل نفع ضئيل .
( الإثم ) كما ورد في معجم مقاييس اللّغة أنّه في الأصل بمعنى البطء والتأخّر ،وبما أنّ الذنوب تُؤخّر الإنسان عن نيل الدّرجات والخيرات ،ولذلك اُطلقت هذه الكلمة عليها ،بل أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية هذا المعنى بالذّات من كلمة الإثم مثل ( وإذا قيل له اتّقِ الله أخذته العزّة بالإثم ){[324]} أي أنّ الغرور والمقامات الموهومة تؤخّره عن الوصول إلى التّقوى .
وعلى كلّ حال ،فالمراد من الإثم هو كلّ عمل وشيء يُؤثّر تأثيراً سلبيّاً في روح وعقل الإنسان ويُعيقه عن الوصول إلى الكمالات والخيرات ،فعلى هذا يكون وجود ( الإثم الكبير ) في الخمر والقمار دليل على التأثير السلبي لهما في وصول الإنسان إلى التقوى والكمالات المعنويّة والإنسانيّة الّتي سوف يأتي شرحها .
السؤال الثالث المذكور في الآية محلّ البحث هو السؤال عن الإنفاق فتقول الآية ( ويسألونك ماذا يُنفقون قل العفو ) .
ورد في تفسير «الدّر المنثور » في شأن نزول هذه العبارة من الآية عن ابن عبّاس أنّ المسلمين سألوا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند نزول آيات الحثّ على الإنفاق: ماذا يُنفقون ؟أيُنفقون كلّ أموالهم أم بعضها ؟فنزلت الآية لتأمر برعاية ( العفو ){[325]} .
ولكن ما المراد من «العفو » في الآية ؟
( العفو ) في الأصلكما يقول الرّاغب في المفرداتبمعنى القصد إلى أخذ شيء ،أو بمعنى الشيء الّذي يُؤخذ بسهولة ،وبما أنّ هذا المعنى واسع جدّاً ويُطلق على مصاديق مختلفة منها: المغفرة والصفح وإزالة الأثر .الحد الوسط بين شيئين .المقدار الإضافي لشيء .وأفضل جزء من الثروة .فالظاهر أنّ المعنى الأوّل والثاني لا يتناسب مع مفهوم الآية ،والمراد هو أحد المعاني الثلاثة المتأخّرة ،يعني رعاية الحد الوسط في الإنفاق ،أو إنفاق المقدار الزائد عن الحاجة ،أو إنفاق القسم الجيّد للأموال وعدم بذل الحصّة الرخيصة والعديمة النفع من المال .
وهذا المعنى وارد أيضاً في الروايات الإسلاميّة في تفسير هذه الآية ،وقد ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال: العفو الوسط{[326]} ( أي أنّ المراد من العفو في الآية أعلاه هو الحد الوسط ) .
وورد في تفسير علي بن إبراهيم ( لا إقتار ولا إسراف ){[327]} .
وفي مجمع البيان عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( العفو ما فضل عن قوت السّنة ){[328]} .
ويُحتمل أيضاً أن يكون العفو في الآية ( وإن لم أجده في كلمات المفسّرين ) هو المعنى الأوّل ،أي الصفح عن أخطاء الآخرين ،وبذلك يكون معنى الآية الكريمة: أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق .
ولا يبعد هذا الاحتمال لو أخذنا بنظر الاعتبار أوضاع شبه جزيرة العربيّةعامّة وخاصّة مكّة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر والعداء والحقد بين الناس ،وخاصّة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو النموذج الكامل لهذا المعنى ،كما أعلن العفو العامّ عن مشركي مكّة الّذين هم أشدّ الناس عداوة للإسلام والمسلمين ،والجواب بهذا المعنى لا يتنافى مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي ،لأنّهم قد يسألون عن موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه ،والقرآن يستثمر فرصة سؤالهم المعبّر عن استعدادهم للسّماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم ،وهذا من شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعاً أهم .ولا يوجد تعارض بين هذه التفاسير ،فيمكن أن تكون مرادة بأجمعها من مفهوم الآية .
وأخيراً يقول تعالى في ختام الآية: ( كذلك يُبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون ) .
/خ220