يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ( 219 )
أسئلة ثلاثة وإجابتها ، وكلها يتصل بإصلاح المجتمع ، وتقوية بنيانه ، وكل واحد منها يتجه إلى ناحية إصلاحية ، وكلها يتلاقى نحو مقصد واحد ، وهو إقامة بناء المجتمع على دعائم من الفضيلة والمودة والتعاون على الخير ، وعدم التعاون على الإثم والعدوان ، وقد جاءت هذه المعاني الإصلاحية التي توثق الوحدة ، وتقوي الروابط بعد الأمر بالجهاد مع بعض أحكام القتال ، لأن القتال حماية للدولة من أن يلتهمها العدو الخارجي ، والإصلاح في هذه المسائل الثلاث يتناول حماية الأمة من أن تأكلها نيران العدو الداخلي ، وهو التنابذ ، وأن تنظر كل طائفة للأخرى نظر العدو المترصد ، لا نظر العضو المتعاون والأخ المتودد ، ولأن الوحدة الداخلية والاتحاد المكين عدة القتال ، وذخيرة الحرب ، فقوة الحرب تستمد من السلم ، ولأن مقصد الإسلام الأسمى هو إيجاد جماعة متآخية متحابة على أسس من الفضيلة والخلق الكريم ، ولكنه ما إن دعا بدعايته ، حتى خرج عليه إخوان الشيطان يحاولون أن يبيدوه وأن يقضوا عليه في مهده ، وفتن المسلمون في دينهم ، وعذبوا في إيمانهم عذابا شديدا فأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وساروا على سنة الوجود ، وهو أن يدافعوا ذلك العدو المعتدي الذي يريد الفتك بهم ، حتى إذا دفعوه وأمنوا شره ، أو فلوا قوته ، وخضدوا شوكته ، اتجهوا إلىإقامة مدينتهم الفاضلة ، وإرساء قواعدها وحققوا بهذا القصد الأول ، ومكنوا لأنفسهم وأعدوا بالفضائل عدة أقوى لمنازلة الأعداء .
و قد ابتدأ القرآن الكريم في إصلاح المجتمع الإسلامي بهذه المسائل والإجابة عنها ، لأنها هي التي تنفي الأذى وتدفع الخطر الاجتماعي . ومن المقرر عند علماء الإسلام أن التخلية مقدمة على التحلية ، أي أن نفي الإثم مقدم على جلب النفع ، وأن دفع المفسدة مقدم على جلب المنفعة ، إذ إنه لا منفعة مع أن الفساد يشيع ، والداء يستشري ، والأذى يستمكن ، ومثل الجماعة في علاجها من أدوائها ، كمثل الجسم الإنساني في علاجه من أمراضه ، فإن الطبيب النطاسي{[278]}لا يبادر بتقوية الجسم ويترك الجراثيم تفتك به بل يجتهد أولا وبالذات في محاربة هذه الجراثيم والقضاء عليها ، ثم يقوي الجسم ، وإن عمد إلى التقوية في أثناء العلاج فلتقوى المقاومة ، ولتزداد الحصانة ، ولتشتد المناعة ، وغرضه الأول محاربة الآفات ، وكذلك الأمر في إصلاح الأمم:يبتدئ بإماطة الأذى الذي يفتك بها ، ثم يثني بأعمال الإنشاء ، التي تقيم البناء .
و إن هذه الأسئلة الثلاثة – هي:السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن مقدار ما ينفق والسؤال عن اليتامى وإصلاحهم .
أما السؤال الأول ، فقد جاءفيه قوله تعالى:[ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما] السؤال عن الخمر والميسر هو بلا شك عن الحل والتحريم لا عن الحقيقة والذات ، فإنهم يعرفونهما بلا شك ، وكان الأغنياء وذوو المقدرة فيهم منغمسين فيهما ، ولذلك كان الجواب مشيرا إلى عدم رضا الشارع عنهما أو مشيرا إلى تحريمهما ، لأن ما غلبت مضرته على منفعته – كما هو حكم الإسلام – يكون حراما ، ولا يكون حلالا ، وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك ، فكان يحق على المؤمن النقي النفس ، الذي خلص من أدران الهوى أن يكتفي بذلك ويجتنبهما ، وكذلك فعل خواص المؤمنين ، والعلية من أصحاب الرسول الأمين كأبي بكر وعمر وغيرهما من السابقين المقربين . ولقد كان عمر رضي الله عنه يحس أن شرب الخمر لا يسوغ في الإسلام ، ولذا كان يدعو اللهقائلا:اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، خصوصا بعد أن نزلت الآيات التي تشير إلى التحريم ، ولا تصرح به .
ولماذا السؤال عن الخمر والميسر ، وممن كان السؤال ؟ إن السؤال بلا ريب من المؤمنين ، ولم يكن من غيرهم ، لأنهم رأوا الخمر تذهب الرشد ، وتضعف العقل ، وتجعل المرء يقع فيما لا يحسن ، حتى أنه ليروى أن حمزة بن عبد المطلب شرب الخمر ، فعقر ناقة لعلي بن أبي طالب قد أعدها ليحتطب عليها ، ويجمع بذلك مهر فاطمة الزهراء ، فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عمه ، ولما خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم كان سكران ، فقال للرسول الكريم ، ما أنتم إلا عبيد أبى{[279]} ! فما كان المؤمنون الأولون وقد أرهف الإيمان قلوبهم وزكت أرواحهم ، وطهرت نفوسهم ليرضوا عن الخمر ، وإن لم يصرح القرآن بالتحريم ، ولذلك كثر سؤالهم عنها ، ليكون القطع في أمرها .
و لقد نزل في الخمر أربع آيات من القرآن الكريم:
أولها:[ و من ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون 67] ( النحل ) .
و الثانية:يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس] .
والثالثة:[ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . . .43]( النساء ) .
و الرابعة:[ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون 90]( المائدة ) .
و لقد اتفق العلماء على أن الآية الأولى أول ما نزل في القرآن خاصا بالخمر ، مشيرا إليها ، لأنها نزلت بمكة ، إذ أنها من صورة النحل وهي مكية . وقد اتفقوا على أن آية المائدة وهي الرابعة آخر آية نزلت في الخمر ، لأنها القاطعة في التحريم ، ولذا قال عمر عندما سمع قوله تعالى في آية المائدة:[ فهل أنتم منتهون91] ( المائدة ):انتهينا ، وشفى ذلك ما في نفس الفاروق من الخمر . والأكثرون على أن قول الله تعالى:[ يسألونك عن الخمر] سبقت في النزول آية:[ يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . . .43] ( النساء ) ولكن يميل بعض المتأخرين{[280]} إلى أن آية [ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى] مقدمة على آية [ يسألونك عن الخمر] لأن هذه فيها إشارة إلى التحريم المطلق لأنه من المقررات الشرعية أنه إذا كان الضرر أكبر من النفع ، فإن الحكم هو التحريم ، وكذلك كل المحرمات ضررها أكبر من نفعها ، ولا يكاد يوجد أمر يكونضارا ضررا محضا ، إذ أنه ما من ضار إلا وفيه نفع ، وما من شر إلا كان فيه بعض الخير ، وما من نفع إلا تأشب به بعض الضرر ، والعبرة في التحريم بالغالب فإن غلب النفع كانت الإباحة ، وإن غلب الضرر كان التحريم ، فإذا كانت آية [ يسألونك عن الخمر] قد صرحت بعلة التحريم فقد أومأت إلى التحريم المطلق ، أما آية [ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى] فهي لم تصرح بالتحريم المطلق ، بل أومأت إلى التحريم المؤقت أو المعلل بكونه لأجل الصلاة ، وإذا كان الترتيب في النزول لأجل التدرج في المنع ، فالمنطق يوجب أن يكون ما فيه إشارة التحريم المطلق مؤخرا عما فيه إشارة إلى التحريم المؤقت ، والمعلل بكونه لأجل الصلاة .
و قبل أن نترك الكلام في آيات الخمر عامة إلى الكلام في هذه الآية الخاصة [ يسألونك عن الخمر] لابد أن نشير إلى معنى خاص بالآية الأولى وهو قوله تعالى:[ و من ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . . .67] ( النحل ) ، فقد فهم بعض الناس أنها تبيح الخمر ، ومن المقررات العلمية في الإسلام أن ما أباحه الله لا يرد نص صريح بإباحته بل يكون متروكا لا نص فيه بالإباحة ولا بالمنع ، ولذا يقول علماء الأصول أنه لا يكون مباحا ، بل يكون في مرتبة العفو لأن ما فيه من أسباب التحريم قائم ، ولكن لا نص يمنع ، فيكون محل عفو الله ، إذ لا عقوبة من غير نص ، فيكف تكون هذه الآية مشيرة للإباحة ؟ والإجابة عن ذلك أن ذا الفهم المستقيم لا يأخذ من الآية الأولى دلالة على الإباحة لا بالإشارة ولا بالعبارة ، بل إنها تدل على التحريم بالإشارة ، وإن لم تكن قريبة بالإشارة في قوله تعالى:[ يسألونك عن الخمر والميسر] ووجه الإشارة إلى التحريم في تلك الآية أن الله سبحانه وتعالى يمن عليهم بنعمه وذكرها لهم ، فذكر أنه سبحانه وتعالى رزقهم ثمرات النخيل والأعناب فاتخذوا منها سكرا ، ورزقا حسنا ، أي أنهم أخذوا منه نوعين متقابلين:أحدهما مسكر والآخر شراب حسن وطعام جيد سماه رزقا حسنا ، فتسميته أحد النوعين بأنه رزق حسن معنى ذلك أن مقابله ليس رزقا حسنا ، بل هو استعمال سيء لما أنعم الله به ، وفي ذلك بلا ريب إشارة إلى أنه مبغض غير مستحسن ، ولا يقر من يتخذه كذلك على ما يفعل ، فليس في هذه الآية إذن إشارة للإباحة بل فيها إشارة إلى التحريم أو تصريح بعدم الاستحسان أو ما هو فيه حكم التصريح من حيث الدلالة اللغوية .
و بعد ذلك نتكلم عن حقيقة الخمر عند الفقهاء ، ثم نتكلم عما فيها من إثم ، وما فيها من نفع ، ووجه الكبر في إثمها والقلة في نفعها ، وقبل أن نخوض في كلام الفقهاء نذكر الاشتقاق اللغوي لكلمة الخمر:
أصل كلمة خمر تستعمل بمعنى الستر ، وبمعنى الترك ، وبمعنى الاختلاط فيقال خمر بمعنى ستر ، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها ، ومنه:خمروا آنيتكم أي:غطوها ، ويقال للشجر الملتف ( خمرا ) لأنه يستر بعضه بعضا ومنه قول القائل:دخل في غمار الناس وخمارهم ، أي اختفى فيهم وستر بهم .
و من استعمالها بمعنى الترك قولهم:اختمر العجين ، أي ترك حتى بلغ إدراكه ، وقولهم خمر الرأي واختمر أي تركت حتى تبين وجه الحق فيه ، ومن استعمالها بمعنى المخالطة أن يقول القائل:ما خمرني شك ، أي خالطني شك .
و الخمر التي تسكر فيها المعاني الثلاثة ، فهي تستر العقل ، وهي لا تكون كذلك مسكرة إلا إذا تركت مدة طالت أو قصرت حتى تتكون منها المادة المسكرة ، وهي تجعل الشارب لها يختلط عقله ، ويغلب صوابه ، فلا يعرف الحق من الباطل ، واللائق من غير اللائق ، والضار من النافع .
و قد اختلف الفقهاء في مدلول كلمة خمر التي نص عليها القرآن بالتحريم مع أن كل مادة من شأنها الإسكار تكون حراما ، إنما موضع الخلاف في الأمر ، الذي حرم بنص الآية أيشمل المسكرات كلها ، فيدخل في عموم التحريم بالنص كل الأنبذة وكل المواد التي من شأنها أن تسكر ، وإن لم يسكر المتناول فعلا سواء أكانت تلك المواد من عصير العنب أم من غيره . . أم أن النص الوارد بالتحريم في الخمر هو فيما كان من عصير العنب ،و غيره من المحرمات ثبت تحريمه بالقياس عليه لتحقق علة التحريم فيه ، ولعموم النص في الحديث "كل مسكر حرام "{[281]} .
قال الجمهور الأول ، وهو أن كلمة خمر تشمل كل مسكر ، وحجتهم في قولهم أصل الاشتقاق لأن كل مسكر يتلاقى مع أصل الاشتقاق في الكلمة ، لأنه يستر العقل ، ويجعل الشارب مختلط الفكر مضطرب النظر لا يعرف الحق من الباطل ، وقد تبين من قبل أصل الاشتقاق . وقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليهوسلم قال:"كل مسكر خمر "فكان هذا تبيينا من النبيصلى الله عليهوسلم لمعنى كلمة خمر ، والنبي صلى الله عليهوسلم هو المبين الأول للقرآن الكريم ، فلا تفسير وراء تفسيره صلى الله عليهوسلم ، ولقد روي أن الرسول صلى الله عليهوسلم قال:"إن من العنب خمرا وإن من التمر خمرا ، وإن من العسل خمرا وإن من البر خمرا ، وإن من الشعير خمرا "{[282]}فلم يقتصر النبي صلى الله عليهوسلم في تفسيره على عصير العنب ، بل شمل أكثر المواد التي كانيتخذ العرب منها خمورهم .
و لقد فهم الصحابة ، وهم من العرب الذين أوتوا علم هذه اللغة ، تحريم كل مسكر عندما نزل قوله تعالى:[ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه . . .90] ( المائدة ) ، ولذلك أراقوا كل الأنبذة التي كانوا يتناولونها ، وليس فيها شيء من عصير العنب . ولقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال:"حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمرا من الأعناب إلا قليلا وعامة خمرنا البسر والتمر "{[283]} .
هذا تفسير الجمهور لكلمة الخمر الوارد في القرآن الكريم ، ولقد خالف أبو حنيفة وأصحابه الجمهور في تفسير كلمة خمر التي ورد بها النص القرآني:فقالوا إنها النيئ من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ، وما عدا ذلك لا يسمى خمرا ، وإن كان مسكرا حراما . وترى أنهم لا يعدون حتى كل عصير العنب من الخمر ، فلا يدخل في كلمة الخمر المطبوخ ، ويستدلون لقولهم هذا بأن النبي صلى الله عليهوسلم أتي بنشوان فقال:"أشربت خمرا ؟"فقال:ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله . قال:"فماذا شربت ؟"قال الخليطين . فحرم الرسول صلى الله عليهوسلم الخليطين "{[284]} . فنفى الشارب اسم الخمر عن الخليطينبحضرة النبي صلى الله عليهوسلم ، فلم ينكره عليه ، ولو كان ذلك يسمى خمرا من جهة لغة أو شرع لما أقره صلى الله عليهوسلم .
و قد روي أن النبي صلى الله عليهوسلم قال في حجة الوداع ، وقدسئل عن الأشربة:"حرام الخمر بعينها والمسكر من كل شراب".
و مهما يكن من الاختلاف في تفسير كلمة خمر ، فقد اتفق الفقهاء على أن كل مادة من شأنها الإسكار تكون حراما وتأخذ مكان الخمر تماما ، وإنما موضع الخلاف هو في أن كل المسكرات داخلة في النهي بنص الآية أم داخلة بالقياس والحديث ؟ قال الجمهور الأول ، وقال الحنفي الثاني .
و إن الأحاديث الصحيحة تثبت أن علة تحريمالخمر إسكارها أو تخديرها على حد تعبير علماء اليوم ، فقد ورد أن النبي صلى الله عليهوسلم قال:"كل مسكر خمر وكل مسكر حرام "{[285]} ، وإذا توافرت هذه العلة في شراب كان حراما قليله وكثيره ، لأنه يكون حرام التناول في الكثير لذاته ، وفي القليل لسد الذريعة ، ولأنه إذا كان مسكرافإنه لا يكون عند الأكثرين طاهرا ، ولأنه إذا كان مسكرا في ذاته فإن قليله مهما قل يكون مخدرا .
و في الحقيقة أن المسكر حرام ، لا لأنه مسكر فقط ، بل لأنه يميت الضمير ، أو يخفت صوت الوجدان الخلقي ، ويضعف صوت النفس اللوامة ، وإن ذلك يحدث في القليل والكثير ، ويحدث لكل الناس ، حتى أولئك الذين لا تظهر عليهم أمارات السكر من اضطراب القول واختلاط مظاهر التفكير . وتعجبني كلمة في هذا قالها الفيلسوف تولستوي فقد قال في كتابه الآفات الاجتماعية:( إن النبي محمد صلى الله عليهوسلم حرم الخمر لأنها تميت الوجدان أو تضعفه ) . والخمر كذلك حقيقة ، لأن الرجل يؤنبه ضميره على فعل ، فلا يتناول الكأس حتى يزول تأنيب الضمير ، والرجل يهم أن يقدم على الشر فيستيقظ وجدانه ، ويقف حائلا بينه وبين فعله ، فلا يلبث أن يتناول الكأس أو بعضه حتى تزول محاجزات الضمير ، ويندفع في الشر اندفاعا لا يقف في سبيله واعظ من ضمير ، أو زاجر من نفس لائمة ، ، ويستوي في ذلك قليل الخمر وكثيره ، كما يستوي في ذلك من لا يسكر ومن يسكر من الشرب .
بعد هذا نشير في إلمامة موجزة إلى معنى قوله تعالى:[ فيهما إثم كبير][ و إثمهما أكبر نمن نفعهما] ولنبتدئ الآن بيان إثم الخمر ثم نعقب بذلك على بيان إثم الميسر .
الإثم في أصل معناه:اسم لكل فعل معوق مبطئ لا يوصل للأغراض والنتائج ، ثم أطلق في لغة القرآن على أفعال الشر ، لأن الشر يعوق الإنسان عن الوصول إلى الغاية الإنسانية الكاملة ، ويبطئ عن الوصول إلى الثواب في الآخرة . و قد تطلق كلمة إثم في لغة القرآن الكريم ويراد منه العذاب والعقاب ومن ذلك قوله تعالى:[. . .و من يفعل ذلك يلق أثاما 68]( الفرقان ) .
و المراد من الإثم في الآية الكريمة ما يقابل النفع وهو الضرر . وفي الحقيقة أن الخمر فيها ضرر لا شك في ذلك ، وضررها أكبر من نفعها بلا ريب ، وحسبها ضررا أمران لا شك في وجودهما ، ولا ريب في أنهما يترتبان عليها:
أولهما – إضعاف صوت الضمير ، ولا شيء يضر في الاجتماع أكثر من صوت الضمير وإضعافه ، لأن الخلق الاجتماعي الذي يترتب عليه الإلف ، والائتلاف بين الناس أساسه الحياء ، والإحساس بسلطان الجماعة لائمة ومهذبة ، وتبادل الشعور بينه وبين غيره ، ثم النفس اللوامة ، وإن الكأس تذهب بكل هذا:تذهب بالحياء والحياء خير كله ، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت ، ويندفع الشخص في مخالفة الجماعة غير هياب ولا وجل ، وكثيرا ما يكون القصد الأول من الشرب خرق حجاب الحياء ، لينطلق بالقول والفعل بما لا يليق .
و إن ذلك الأمر يعم كل شارب ، سواء أكان ممن تقرب سكرتهم ، أم كان ممن تبعد ، وسواء أكان المقدار قليلا ، أم كان كثيرا ، فلا يكاد يكون شارب بعد شربه فيحيائه الذي كان عليه من قبل ، وفي قوة وجدانه وضميره التي كانت له قبل أن يتناول ذلك السم الخلقي الذي يفتك بالأخلاق الفضيلة ، ولذلك سميت الخمر بحق أم الخبائث ، لأنها بعد تناولها تسهل كل خبيثة كانت مستعصية لا تقبلها النفس ويعافها الشارب .
ثاني الأمرين اللذين يترتبان عن الشرب بلا مراء:ذهاب الرشد ، أو إضعاف الإدراك ووزن الأمور وزنا صحيحا ، وإنا والله لنعجب لأولئك الذين يرضون الضلال بدل الرشد ، والغفلة بدل الصحو ، وقد كان في الجاهلية رجال عافوا ذلك ، ولم يرتضوه لأنفسهم ، وقد قيل للعباس بن مرداس ، وكان لا يشرب:( ألا تشرب الخمر ، فإنها تزيد في حرارتك ؟ ) فقال:( ما أنا آخذ جهلي بيدي ، فأدخله في جوفي ، ولا أرضى بأن أصبح سيد القوم وأمسي سفيههم ) .
و لكن الفوضى الخلقية التي صار عليها الناس اليوم جعلتهم يغفلون عن هذه الحقائق المقررة الظاهرة ، ولا يلتفتون إليها ، بل لقد ذهب بعضهم إلى المغالاة فزعم أنها ضرورية للمدنية اليوم ، فإن الآلام النفسية قد اشتدت ، والمحن قد كثرت ، ولا دواء لهذا الداء إلا الخمر ، فهي اليوم دواء لا داء ، وإنها علاج المجتمع! ذلك قولهم بأفواههم ، وذلك تفكيرهم في أهوائهم .
و نحن نقول:إنها تناسب مدنيتهم ، وهي خاصة من خواصها ، لأنها مدنية اتسمت بالرذيلة ، وصارت شعارها ، فكان من المناسب أن تكون الخمر دواءها ، لأن الدواء يكون من جنس الداء ، وأم الخبائث هي التي ترأم الخبائث ، وتكنفهاوتحوطها وترعاها ، فلا عجب إذا رأينا التفكير المعكوس هو الذي يدافع عن الخمر ، ولابد أن قائله قاله ورائحته تبعث من فيه ! .
من ذا الذي يقول إن تفاقم الرذائل داع للانغمار فيها ؟ إنه كلما تفاقم الشر وجب جمع العزائم لمحاربته ، وإن المحن النفسية إذا اشتدت وجب تقوية الوجدان الخلقي ، والضمير الخلقي ، وتربية الناس على ضبط النفس والصبر الجميل ، وإيقاظ النزوع الديني ، والعزاء الروحي ، أما إذا تألمت النفس وقوي الضمير ، واشتد اللوم النفسي فأخذ المتألم الكأس ليخفي الألم ويضعف صوت الضمير ، فإنه كالجندي يفر من مواطن الجهاد ، وميدان العمل إلى أن يكون في موضع الهمل ، فهل يرضى كريم لإنسانيتهبتلك المنزلة الهون فيميت آدميته ويقتل خلقه ، ويذهب بمروءته ورشده ، ويكون ملهى الصبيان ، يتلعب بكرامته الغلمان ، أو على الأقل يعمل على أن يفسد تقديرهووزنه الأمور ، لأن معرفتها على حقيقتها تؤلمه! وهل يذهب بأسباب المحن غفلته عنها وابتعاده عن الإحساس بها! !كلا إنه يتردى بالخمر من محنة إلى محنة ، فغفلته عن المحنة بالخمر تدفعه إلى ثانية ثم إلى ثالثة ، وهكذا تتوالى عليه المحن بها ، حتى يضيع نفسه ، وأهله ، وأولاده ، وأصحابه ولا يبقى معه إلا إخوان الشر ، ودعاة الفساد!
هذه إشارة إلى مضار الخمر المعنوية والاجتماعية ، أما مضارها الجسمية ، فيكاد العلم الحديث يثبت أنه لا شيء يدخل الجسم أضر عليه من الخمر ، فهي تأكل الكبد وتضخمه ، وتفسد الكلية ، وتضعف أنسجة الجسم ، وتنهك الأعضاء الداخلية العاملة ، وتفقد الشهية للطعام ، وتفسد المعدة ، وتحدث تصلبا في الشرايين وتمددا فيها ، وأحيانا يموت السكير فجأة لهذا الداء ، والخمر تضعف الحنجرة ، وشعب التنفس ، وتكثر السعال .
و قد أثبت التحليل الطبي أن الجسم لا يستفيد منها أي فائدة ، فإنها وإن كانت فيها مواد غذائية ، يذهب السم الذي صاحبها بفائدتها فهي في جملتها عقاقير سامة . وما يحدث من نشاط في الجسم ونشوة عند شربها سببه هو أنها مواد غريبة على المزاج الجسمي ، فعناصر الجسم تقاومها وتدافعها وبهذه المقاومة والمدافعة يتولد الإحساس بالنشاط ، وإذا كانت الخمر في أحيان قليلة تقي من بعض الأمراض التي لا خطر منها ، فالضرر الناشئ عنها أشد من الأضرار الناشئة عما تدفعه! .
و قد يقول قائل:إنها تتخذ دواء أحيانا ، ولذلك يتساهل بعضهم في ذلك ، ولكن وجدنا طبيبا إنجليزيا يصرح في قوة قائلا:( أنا لا أعلم مرضا قط قد شفي من الخمر ) ! ويقول اسكتلندي:( الخمر لا تشفي شيئا ) ويقول ثالث:( إن الخمر تدخل الجسم وتخرج منه ولا أثر لها إلا ما تحدثه من أضرار ){[286]} . وهكذا تتوارد أقوال الأطباء في أنها لا تصلح شفاء ، وإن كانت تقي في حالات قليلة من بعض أمراض لا خطر فيها ، وبهذا يصح الأثر عن السلف:"لا دواء في محرم "، ولقد روى مسلم أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليهوسلم عن الخمر فنهاه ، أو كره أنيصنعها ، فقال إني أصنعها للدواء ، فقال الرسول صلى الله عليهوسلم:"إنه ليس بدواء ولكنه داء "{[287]} فما أصدق الرسول صلى الله عليهوسلم ، ولكنه المبلغ عن ربه ، وكفى ذلك تصديقا .
و ليست أضرار الخمر الجسمية والعقلية مقصورة على التناول ، بل إنها تنتقل إلى ذريتهمن بعده ، إذ يكون النسل ضعيفا ضاويا ، في جسمه وعقله ، حتى يكون أقرب إلى الجنون ، وأشد استعدادا له ، فإن تناولها يجعل السكير ضعيف العقل ، إذ تضعف قواه العقلية شيئا فشيئا حتى يصير كالأبله ، وينتقل ذلك إلى ورثته . ولقد قال بنتام في كتاب"أصول الشرائع "ما نصه:( النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الإنسان كالأبله ، وفي الأقاليم الجنوبية يصير كالمجنون ، وقد حرمت ديانة محمد صلى الله عليهوسلم جميع المشروبات ، وهذه من محاسنها ){[288]} .
و لقد علم الأوربيون مضار الخمر علما يقينا ، ووجدوا أن الإكثار منها بين أمم إفريقيا والشرق قد يبيدها ، أو يفسد العناصر الصالحة فيها ، ولذا جاء في كتاب "الإسلام خواطر وسوانح"في عجز المدنية الأوربية عن إبادة المسلمين:( إن المسكرات التي استعملها بعض الفاتحين لا تؤثر في أهالي الجزائر لكونهم يمقتونها مقتا شديدا ){[289]} .
و لكن المسلمين قد أصبحوا قادة الفكر فيهم لا يمقتونها اليوم ، فهل فتحت أبواب الفناء ، وزالت حواجز البقاء ؟ اللهم أصلح الأحوال ، وقو العزائم ، وهيئ لنا من أمرنا رشدا! .
هذه بعض آثار الخمر ، فما منافعها ؟ والله العلي القدير لولا أن القرآن الكريم ذكر أن فيها منافع للناس ما ظننت أن فيها نفعا ولو بطريق الشبهة ، ولكن هكذا قال القرآن ، وليس لنا إلا الإيمان . ولقد ذكر بعض العلماء منافع ظاهرية لها ، منها أنها وقاية أحيانا من بعض جراثيم الأمراض بما فيها من كحول ، ومنها أنها قد تثير النخوة ، ومنها أنها تسلي ، ومنها أنها تسخي البخيل أحيانا ، وأن ما يكنف هذه الأمور التي يكون ظاهرها نفعا من أضرار يجعل النفع لا جدوى فيه ، بل يكون الضرر في هذه الأحوال نفسها أكثر من النفع .
هذه الخمر ، أما الميسر ، فهو قمار العرب ، و يطلق على كل قمار اسم ميسر ، فكل ما يتخاطر فيه الناس من معاملة فيها خطر الكسب المطلق أو الخسارة المطلقة يعد ميسرا أو قمارا . وأصل اشتقاق كلمة ميسر إما من الميسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجيء للكاسب عفوا من غير جهد ، وإما من يسر بمعنى وجب ، لأن اللاعب إذا آل إليه الكسب يصير واجبا ، وإما من يسر بمعنى جزأ ، وقد اختار ذلك الأزهري ، فقال:"الميسر:الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسرا ، لأنه يجزأ ، فكأنه موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته فقد يسرته ، والياسر الجزار ، لأنه يجزئ لحم الجزور . . وهذا الأصل في الياسر ، ثم قيل للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور ياسرون ، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا في ذلك ) .
هذا هو الأصل في استعمال كلمة ميسر ، وقد أطلقت على كل قمار ، وقمار العرب الذي أطلقوا عليه كلمة ميسر هو أنهم كانوا يقسمون البعير المذبوح إلى ثمانية وعشرين قسما ، ويوضع عشرة أقداح ، ثلاثة منها غفل لا علامة عليها تسمى:السفيح ، والمنيح ، والوغد ، ومن طلع له واحد منها لا يأخذ شيئا ، وقد تزاد الغفل على هذا العدد ، أما السبعة الأخرى فهي الكاسبة وهي:الفذ وله سهم واحد ، والتوأم وله سهمان ، والرقيب وله ثلاثة ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمسة ، والمسل وله ستة ،و المعلى له سبعة ،و المجموع ثمانية وعشرون .
و لاشك أن هذا من قبيل ما نسميه اليوم ( ورق اليناصيب ) ، وقد كانت عادة العرب أن يفعلوا ذلك عند اشتداد الضائقة ليتبرعوا بنتائج الكسب على الفقراء ، وما أشد الشبه بين هذا وبين عمل الجماعات التي تجمع التبرعات بهذه الطريقة! .
و لقد جاءت النصوص الصريحة بتحريم كل قمار ، وقد ورد أن رجلا قال:إن أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا ، فارتفعا إلى علي فقال:ذلك قمار!
والميسر مضاره كثيرة ، فهو يؤدي إلى إتلاف المال وإهمال الأعمال . وهو أكل لمال الناس بالباطل ، ويفسد الأخلاق ، وقد يترتب عليه خراب البيوت . وهو فوق ذلك يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويورث العداوة والبغضاء ، كما قال تعالى:[ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فأنتم منتهون 91]( المائدة ) .
و منافع الميسر ضئيلة أيضا بجوار مضاره ، ومنها إعطاء الفقراء ، كما نرى فيما تصنع جماعات الإحسان ، وأن الحكومات التي تعنى بتربية شعوبها وتهذيب نفوسهم تحارب انتشار القمار ، وتقطع السبل المؤدية إليه ، ولو كانت تبيحه في النوادي الخاصة ، فبعض الأمم الأوربية يحرم قانونها بيع أوراق اليناصيب ، ولو كانت للبر ، لأنها تربي في الشعب روح المقامرة ، مع أن هذه الأمم تبيح فتح النوادي للقمار ، فهي لا تمنع فتحها للحرية الشخصية في زعمها ، ولكنها تمنع ما يبعث في الشعب روح المقامرة .
و يلاحظ في الكلمات السامية:[ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس] أنه أطلق الإثم ولم يضفهفلم يقل إثم على الناس أو للناس ، وقيد المنافع بأنها للناس ، وهذا يدل على أن الإثم في الخمر والميسر ذاتي ، فهما في ذاتهما رجس كبير ، وخطر وبيل ، وأن ما فيهما من منافع فهي ضئيلة وهي بالنسبة لبعض الناس ، فهي منافع إضافية ، لا منافع ذاتية ، فجوهر الخمر والميسر شر لا خير فيه ، وما يكون من نفع فيهما في بعض الملابسات ، كما يلاحظ في بيع الأوراق لتمويل بعض جماعات البر ، فليس ذلك لأن في الميسر خيرا أو نفعا ، بل لأن النفوس فسدت ، وشحت بالخير ، فلا تجود إلا من هذا الطريق الفاسد ، فما فيه من نفع إضافي سببه فساد الناس ، وهو نفع ضئيل للناس ومشتق من أحوالهم .
و أما السؤال الثاني فقد جاء في قوله تعالى:[ و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ( 219 ) في الدنيا والآخرة] ، ومناسبته للسؤال الأول أنهم كانوا يتخذون من الخمر والميسر طريقا لتسخية نفوس الأشحة على الخير الذي لا يجودون من تلقاء أنفسهم ، فكان السؤال عن الإنفاق على البر ، عقب السؤال عن الأمر الآثم الذي كانوا يحسبونه برا وهو إثم لا بر فيه . وفي الإجابة عن هذا السؤال بيان طريق العطاء المنظم المعلوم الخالي من الإثم ، بدل العطاء المجهول غير المنظم للتأشب بالإثم الذي أحاط به . والعفو معناه:السهل ، أو الزائد فإن كلمة عفة لها ثلاثة إطلاقات أولها الترك ، كما قال تعالى:[ عفا الله عما سلف . . .95]( المائدة ) أي تركه وتجاوز عنه ، وبمعنى السهل ، كما في قوله تعالى:[ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين 199]( الأعراف ) . وبمعنى الزيادة ، والمعنى هنا السهل الزائد عن الحاجة . سألوا عما ينفقون من مال في البر ، فقال لنبيه [ قل العفو] أي السهل الزائد عن حاجتكم الأصلية الذي لا يشق عليكم بذله ، إن استقامت النفوس ، وامتلأت القلوب بالإيمان ، وعمرت بالرحمة وأجابت نداء الرحمان . والعفو يشمل الزكاة المفروضة ، لأنها ليست إلا فضلا قليلا من المال ، كما يشمل صدقة التطوع ، وكما يشمل الصدقات التي يتعين أداؤها إذا كان الشخص في مخمصة ولا يدفع غائلة الجوع إلا شخص واحد يعرفه ، ولا يعرفه سواه ، فإنه يتعين عليه الأداء ، وأنه في وقت الحاجات يفيض الغني على الفقير بكل ما يسد حاجته . ولقد روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال:بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل على راحلة فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له "فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل{[290]} .
وإن الآية كما تدل على ذلك توجب على المتصدق أن يبقي لنفسه ولعياله ما يكفيهم ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى "{[291]} وروي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال:خذها مني صدقة فأعرض عنه حتى كرر عليه مرارا . . . فردها الرسول صلى الله عليه وسلموقال:"يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس ويتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى "{[292]} .
و قد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى:[ كذلك يبين لكم الله الآيات لعلكم تتفكرون] أي يبين سبحانه وتعالى في كل الأحوال بيانا كهذا الذي ذكره في الإنفاق وفي الخمر والميسر لكي تتفكروا وتتدبروا في مصالحكم في الدنيا والآخرة ، فتسيروا على الطريق المستقيم في الدنيا ، وتتكون منكم الجماعة الفاضلة المتعاونة المتآزرة ، ويحسن جزاؤكم في الآخرة ، وتحظوا برضوان الله ، وذلك الفوز العظيم . و"لعل "للرجاء ، وهو من الله سبحانه وتعالى في معنى التعليل ، لأنه لا رجاء من الله ، إنما الرجاء من العبيد فهذا التمثيل والتصريف في آيات الله البينات ليرجوا التفكر والتدبر ، ويسيروا فيه ليصلوا إلى الغاية الصالحة .