)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) ( البقرة:243 )
التفسير:
قوله تعالى:{ألم}: الاستفهام الداخل هنا على النفي يراد به التقرير ،والتعجيب أيضاً:{تر} أي تنظر ؛والخطاب هنا إما لرسول الله ( ص ) ؛أو لكل من يتأتى خطابه ؛والأخير أحسن ؛لأنه أعم ؛و «الرؤية » هنا رؤية الفكر ؛لا رؤية البصر .
قوله تعالى:{إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}؛لم يبين الله عزّ وجلّ من هؤلاء الذين خرجوا ؛فقيل: إنهم من بني إسرائيل ؛وقيل: إنهم من غيرهم ؛والمهم القصة ،والقضية التي وقعت ؛و{من ديارهم} أي من بيوتهم ،وأحيائهم التي يأوون إليها ؛{وهم ألوف}: الجملة في موضع نصب على الحال من الواو في{خرجوا}؛وكلمة:{ألوف} جمع ألف ؛وهو من صيغ جموع الكثرة ؛فقيل: إنهم ثمانية آلاف ؛وقيل: ثمانون ألفاً ؛وإذا نظرت إلى صيغة اللفظ -{وهم ألوف} - تجد أنها تدل على أنهم أكثر من ثمانية آلاف ؛وأنهم عالم كثير ؛و{حذر الموت} مفعول لأجله ؛والعامل قوله تعالى:{خرجوا} يعني خرجوا خوفاً من الموت ؛وهل هذا الموت طبيعي ؛لأنه نزل في أرضهم وباء ؛أو الموت بالقتال في سبيل الله ؟في ذلك قولان لأهل العلم: فمنهم من يقول - وهم أكثر المفسرين -: إن المراد: خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت لوباء وقع في البلاد ؛فخرجوا فراراً من قدر الله ؛فأراد الله عزّ وجلّ أن يريهم أنه لا مفر منه إلا إليه ؛وقيل: إن المراد: خرجوا حذر الموت بالقتل ؛لأنهم دهمهم العدو ؛ولكنهم جبنوا ،وخرجوا خوفاً من أن يقتلهم العدو ؛فالذين قالوا بالأول قالوا: لأنا إذا أخذنا الآية بظاهرها -{حذر الموت} - تبين أنه نزل في أرضهم وباء ،فخرجوا من ديارهم خوفاً من الوباء ؛والذين قالوا بالثاني قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى قال بعدها:{وقاتلوا في سبيل الله} [ البقرة: 190]؛فكأن الله عرض قصة هؤلاء الذين جنبوا ،وهربوا توطئة لأمرنا بالقتال في سبيل الله ،وأن نصبر .
قوله تعالى:{فقال لهم الله موتوا} أي قال لهم قولاً كونياً ،كقوله تعالى:{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [ يس: 82] .
قوله تعالى:{ثم أحياهم}؛«ثم » تدل على التراخي ،وأن الله سبحانه وتعالى أحياهم بعد مدة ؛وقيل: إنه أحياهم لسبب ؛وهو أن نبياً من الأنبياء مرّ بهم وهم ألوف مؤلفة جثث هامدة ؛فدعا الله أن يحييهم ؛فأحياهم الله ؛وقال بعض المفسرين: إن الله أحياهم بدون دعوة نبي ؛وهذا هو ظاهر اللفظ ؛وأما الأول فلا دلالة عليه ؛وعليه فنقول: إن الله أحياهم ليُري العباد آياته .
قوله تعالى:{إن الله لذو فضل على الناس}: اللام هنا للتوكيد ؛و «ذو » بمعنى صاحب ؛و «الفضل » بمعنى العطاء ،والتفضل .
قوله تعالى:{ولكن أكثر الناس لا يشكرون} أي لا يقومون بشكر الله عزّ وجلّ حين يتفضل عليهم ؛و «الشكر » طاعة المتفضل .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه لا فرار من قدر الله ؛لقوله تعالى:{حذر الموت فقال لهم الله موتوا}؛وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الطاعون: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه »{[429]} .
2 - ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ بإماتة الحيّ ،وإحياء الميت ؛لقوله تعالى:{موتوا}؛فماتوا بدليل قوله تعالى:{ثم أحياهم} .
3 - ومنها: أن فيها دلالة على البعث ؛وجهه: أن الله أحياهم بعد أن أماتهم .
4 - ومنها: أن بيان الله عزّ وجلّ آياته للناس ،وإنقاذهم من الهلاك من فضله ؛لقوله تعالى:{إن الله لذو فضل على الناس} .
5 - ومنها: أن لله نعمة على الكافر ؛لعموم قوله تعالى:{على الناس}؛ولكن نعمة الله على الكافر ليست كنعمته على المؤمن ؛لأن نعمته على المؤمن نعمة متصلة بالدنيا والآخرة ؛وأما على الكافر فنعمة في الدنيا فقط .
6 - ومنها: أن الشاكر من الناس قليل ؛لقوله تعالى:{ولكن أكثر الناس لا يشكرون} .
7 - ومنها: أن العقل يدل على وجوب شكر المنعم ؛لقوله تعالى:{إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون}؛وهذا على سبيل الذم ؛فيكون من لا يشكر مذموماً عقلاً ،وشرعاً .
8 - ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى بحروف مرتبة ؛لقوله تعالى:{موتوا}؛فيكون فيه رد على من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه .
9 - ومنها: أن معنى قوله تعالى:{إذا أراد شيئاً أن يقول له كن} [ يس: 82] أن الله عزّ وجلّ يتكلم بما أراد ؛لا أن يقول:{كن} فقط ؛بل يتكلم بما أراد: كن كذا ؛كن كذا ؛لأن الكلام بكلمة{كن} مجمل ؛ولما قال الله للقلم: «اكتب قال: رب ماذا أكتب ؟»{[430]} ؛فيصير معنى{كن} أي الأمر المستفاد من هذه الصيغة ؛ولكنه يكون أمراً خاصاً ؛فلو كان الله سبحانه وتعالى يريد أن ينزل مطراً ؛لا يقول:{كن} فقط ؛بل يكون بالصيغة التي أراد الله عزّ وجلّ .
10 - ومن فوائد الآية: جواز حذف ما كان معلوماً ،وأنه لا ينافي البلاغة ؛وهو ما يسمى عند البلاغيين بإيجاز الحذف ؛لقوله تعالى:{موتوا ثم أحياهم}؛والتقدير: «فماتوا ثم أحياهم » ؛وهذا كثير في القرآن ،وكلام العرب .
11 - ومنها: أنه سبحانه وتعالى يمدح نفسه بما أنعم به على عباده ؛لقوله تعالى:{إن الله لذو فضل على الناس}؛ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أحب إليه المدح من الله »{[431]} ؛فهو سبحانه وتعالى يحب أن يُمدح ،ويُحمد ؛لأن ذلك صدق ،وحق ؛فإنه سبحانه وتعالى أحق من يُثنى عليه ،وأحق من يُحمَد ؛وهو سبحانه وتعالى يحب الحق .
12 - ومنها: أن من طبيعة البشر الفرار من الموت ؛لقوله تعالى:{خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت} .
ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يستعد للذي يحذر منه وهو لا يدري متى يفجؤه .