قوله تعالى:{أولئك}: المشار إليه ما تقدم ممن اتصفوا بالصفات الخمس ؛وأشار إليهم بصيغة البعد لعلوّ مرتبتهم ؛{على هدًى} أي على علم ،وتوفيق ؛و{على} للاستعلاء ؛وتفيد علوهم على هذا الهدى ،وسيرهم عليه ،كأنهم يسيرون على طريق واضح بيّن ؛فليس عندهم شك ؛تجدهم يُقبلون على الأعمال الصالحة وكأن سراجاً أمامهم يهتدون به: تجدهم مثلاً ينظرون في أسرار شريعة الله ،وحِكَمها ،فيعلمون منها ما يخفى على كثير من الناس ؛وتجدهم أيضاً عندما ينظرون إلى القضاء والقدر كأنما يشاهدون الأمر في مصلحتهم حتى وإن أصيبوا بما يضرهم أو يسوءهم ،يرون أن ذلك من مصلحتهم ؛لأن الله قد أنار لهم الطريق ؛فهم على هدًى من ربهم وكأن الهدى مركب ينجون به من الهلاك ،أو سفينة ينجون بها من الغرق ؛فهم متمكنون غاية التمكن من الهدى ؛لأنهم عليه ؛و{من ربهم} أي خالقهم المدبر لأمورهم ؛والربوبية هنا خاصة متضمنة للتربية الخاصة التي فيها سعادة الدنيا ،والآخرة ..
قوله تعالى:{وأولئك هم المفلحون}: الجملة مبتدأ وخبر ،بينهما ضمير الفصل الدالّ على التوكيد ،والحصر ؛وأعيد اسم الإشارة تأكيداً لما يفيده اسم الإشارة الأول من علوّ المرتبة ،والعناية التامة بهم كأنهم حضروا بين يدي المتكلم ؛وفيه الفصل بين الغاية ،والوسيلة ؛فالغاية: الفلاح ؛ووسيلته: ما سبق ؛و"الفلاح "هو الفوز بالمطلوب ،والنجاة من المرهوب ؛فهي كلمة جامعة لانتفاء جميع الشرور ،وحصول جميع الخير .
تنبيه:
من المعروف عند أهل العلم أن العطف يقتضي المغايرة .أي أن المعطوف غير المعطوف عليه .؛وقد ذكرنا أن هذه المعطوفات أوصاف للمتقين وهو موصوف واحد ؛فكيف تكون المغايرة ؟
والجواب: أن التغاير يكون في الذوات كما لو قلت:"قدم زيد ،وعمرو "؛ويكون في الصفات كما في هذه الآية ،وكما في قوله تعالى:{سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدَّر فهدى * والذي أخرج المرعى} [ الأعلى: 1 .4]؛قالوا: والفائدة من ذلك أن هذا يقتضي تقرير الوصف الأول .كأنه قال:"أتصف بهذا ،وزيادة ...
الفوائد: .
. 1من فوائد الآية: أن من أوصاف المتقين الإيمان بالغيب ؛لأن الإيمان بالمُشاهَد المحسوس ليس بإيمان ؛لأن المحسوس لا يمكن إنكاره ..
. 2ومنها: أن من أوصاف المتقين إقامة الصلاة ؛وهو عام لفرضها ،ونفلها ..
ويتفرع على ذلك: الترغيب في إقامة الصلاة ؛لأنها من صفات المتقين ؛وإقامتها أن يأتي بها مستقيمة على الوجه المطلوب في خشوعها ،وقيامها ،وقعودها ،وركوعها ،وسجودها ،وغير ذلك ..
. 3ومن فوائد الآيات: أن من أوصاف المتقين الإنفاق مما رزقهم الله ؛وهذا يشمل الإنفاق الواجب كالزكاة ،وإنفاقَ التطوع كالصدقات ،والإنفاقِ في سبل الخير ..
. 4ومنها: أن صدقة الغاصب باطلة ؛لقوله تعالى:{ومما رزقناهم}؛لأن الغاصب لا يملك المال الذي تصدق به ،فلا تقبل صدقته ..
. 5ومنها: أن الإنفاق غير الزكاة لا يتقدر بشيء معين ؛لإطلاق الآية ،سواء قلنا: إن"مِن "للتبعيض ؛أو للبيان ..
ويتفرع على هذا جواز إنفاق جميع المال في طرق الخير ،كما فعل أبو بكر رضي الله عنه حين تصدق بجميع ماله؛لكن هذا مشروط بما إذا لم يترتب عليه ترك واجب من الإنفاق على الأهل ،ونحوهم ؛فإن ترتب عليه ذلك فالواجب مقدم على التطوع ..
. 6 ومن فوائد الآية: ذم البخل ؛ووجهه أن الله مدح المنفقين ؛فإذا لم يكن إنفاق فلا مدح ؛والبخل خلق ذميم حذر الله سبحانه وتعالى منه في عدة آيات ..
تنبيه:
لم يذكر الله مصرف الإنفاق أين يكون ؛لكنه تعالى ذكر في آيات أخرى أن الإنفاق الممدوح ما كان في سبيل الله من غير إسراف ،ولا تقتير ،كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن:{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [ الفرقان: 67] ..
. 7ومن فوائد الآية: أن من أوصاف المتقين الإيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله .
. 8ومنها: أن من أوصاف المتقين الإيقان بالآخرة على ما سبق بيانه في التفسير ..
. 9 ومنها: أهمية الإيمان بالآخرة ؛لأن الإيمان بها هو الذي يبعث على العمل ؛ولهذا يقرن الله تعالى دائماً الإيمان به عزّ وجلّ ،وباليوم الآخر ؛أما من لم يؤمن بالآخرة فليس لديه باعث على العمل ؛إنما يعمل لدنياه فقط: يعتدي ما دام يرى أن ذلك مصلحة في دنياه: يسرق مثلاً ؛يتمتع بشهوته ؛يكذب ؛يغش ...؛لأنه لا يؤمن بالآخرة ؛فالإيمان بالآخرة حقيقة هو الباعث على العمل ..
. 10ومنها: سلامة هؤلاء في منهجهم ؛لقوله تعالى: ( أولئك على هدًى من ربهم ) .
. 11ومنها: أن ربوبية الله عزّ وجلّ تكون خاصة ،وعامة ؛وقد اجتمعا في قوله تعالى عن سحرة فرعون:{آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون} ( الأعراف: 121 ،122 )
. 12ومنها: أن مآل هؤلاء هو الفلاح ؛لقوله تعالى: ( وأولئك هم المفلحون )
. 13ومنها: أن الفلاح مرتب على الاتصاف بما ذُكر ؛فإن اختلَّت صفة منها نقص من الفلاح بقدر ما اختل من تلك الصفات ؛لأن الصحيح من قول أهل السنة والجماعة ،والذي دلّ عليه العقل والنقل ،أن الإيمان يزيد ،وينقص ،ويتجزأ ؛ولولا ذلك ما كان في الجنات درجات: هناك رتب كما جاء في الحديث:"إن أهل الجنة ليتراءون أصحاب الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق ؛قالوا: يا رسول الله ،تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟قال صلى الله عليه وسلم لا ؛والذي نفسي بيده ،رجال آمنوا بالله ،وصدقوا المرسلين "{[57]} ،أي ليست خاصة بالأنبياء ..