{ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون( 5 )} ذكر الله تعالى ما تحلى به المتقون الذين يؤمنون بما غيبه الله تعالى عنهم ، ودلت عليه الفطرة ، والذين يقيمون الصلاة ، وينفقون مما رزقهم الله تعالى ، ويؤمنون بالرسالات الإلهية ، ويوقنون بالآخرة ، وبعد أن ذكر هذا ذكر سبحانه وتعالى حكمه - تعالت كلماته – عليهم ، مؤكدا ذلك ، فقال:{ أولئك على هدى من ربهم} وأولئك:إشارة إلى حالهم موصوفين بهذه الصفات قائمين بهذه الصفات ، والإشارة إلى الصفات وتعقيب الحكم بعد الإشارة يومئ إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم بأنهم على هدى من ربهم ، وكررت الإشارة لبيان أن هذه الصفات أيضا هي سبب الفوز بالنعيم المقيم ، والبعد عن العذاب الأليم ، فالتكرار للتنبيه على أنها سبب للثانية كما هي سبب للأولى .
والتعبير ب{ على هدى} بالتعدية بعلى إشارة إلى العلو على الهدى والتمكن ، كما يقال:ركب فلان متن الغواية أو علا على الهداية ، فكأنه صار مستمكنا عليها لا يفارقها ، ولا تفارقه . فأصحاب هذه الصفات العالية ينالون الهداية ولا يزايلونها ، فهم في هداية دائمة مستمرة .
وقوله تعالى:{ من ربهم} معناها أن هذه الهداية جاءتهم من ربهم الذي ربهم وكونهم ووفقهم إلى سبيل الخير والعمل الصالح ، والإيمان واليقين باليوم الآخر ، فإسناد الهداية إلى أنها من الرب الكريم بيان لشرفها واستمرارها مع تمكنهم منها ، لأنها من رب هذا الوجود الذي ربه ونماه وهذبه وأعلاه ،
وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما:الإشارة بالبعيد لوجود اللام ، والبعد هنا بعد المنزلة ، وعلوها وشرفها ، فهؤلاء الأتقياء الأطهار الذين نزهت نفوسهم ، وسامتوا{[43]} أعلى العلاء ، يشار إليهم بالبعيد إعلاء وتشريفا وتكريما .
الثانية:تكرار اسم الإشارة أولئك ، ففي هذا التكرار بيان تنويع الفضل الذي حكم الله تعالى عليهم ، فهو قد حكم سبحانه وتعالى عليهم حكمين كريمين أولهما:الهداية الكاملة الدائمة التي نالوها ، وركبو متنها وعلوا عليها ، والحكم الثاني:أنهم ينالون الفوز ، والفوز هنا هو الفوز في الدنيا بعلو نفوسهم ، واستقامتها ، والاتجاه إلى معالي الأمور ورضا الله تعالى ، وهو أكبر جزاء ، فرضوان من الله أكبر ، والفوز في الآخرة بالنعيم المقيم .
وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الفلاح الذي ينالونه بالجملة الاسمية ، فالتعبير بالجملة الاسمية يدل على دوام الفلاح ، وأنه دائم بدوام ما يعطيه ، وهو رب العالمين ، وأكده بتعريف الطرفين ، وهما اسم الإشارة ، وكلمة:"المفلحون"، وتعريف الطرفين يدل على القصر ، أي أنهم هم المفلحون وحدهم دون غيرهم ، فهم قد خلصت قلوبهم وعقولهم وكل مداركهم للحق جل جلاله ، وفاضوا بخيرهم ، وتحملوا المشاق في سبيلهم ، وآمنوا بكل الرسالات ، ولم يطمعوا بغير أن يعدوا أنفسهم لحكم ربهم .
وأكد سبحانه وتعالى الحكم بأنهم المفلحون دون غيرهم بضمير الفصل وهو{ هم} فإن في ذكره فضل التأكيد بأنهم المفلحون وحدهم ، وأنه لا ينال منالهم إلا من سلك مثل سبيلهم ، واختار مثل طريقهم . . اللهم اجعلنا ممن يقتدي برسلك وبهم ، فإنهم هم الفائزون .
والمفلح – من الفلح بمعنى الشق والقطع ، ويطلق المفلح على الفائز ، فكأنه قد شق الطريق ، ونالته المتاعب حتى نال مطلوبه ، وفاز بمرغوبه ، فما وصل إليه إلا بجهد جاهد ، وعمل ولغوب حتى نال ما نال ، وذلك هو الفلاح ، فلا فلاح إلا إذا كان ثمرة لجد وجهاد ، وطلب ، وسير في الطريق إلى غايته ، فالفوز الرخيص بأمر لا يعد فلاحا ، وإن الإنسان يعلو على ملائكة الله تعالى بجده ومغالبته للأهواء الإنسانية ، حتى ينتصر عليها ، ويصل إلى الملكوت الأعلى ؛ لأنه وصل بمغالبة وجهاد ، والملائكة لا مغالبة فيهم ؛ لأن الله خلقهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .