أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ[ هؤلاء ،الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم اللّه ،يسيرون على طريق الهدى ،لأنَّ الإيمان باللّه يفتح آفاق الحياة أمام الإنسان ،والإيمان بالرسالات يخطط له حياته ،أمّا الإيمان بالآخرة ،فيجعل للحياة هدفاً كبيراً يمكن للإنسان أن يجاهد من أجله ويسعى إليه .
هذه هي الأسس الثلاثة للعقيدة ..ويتبعهاكما قلناالمظهران العمليان للعقيدة ،وهما: إقامة الصلاة التي تربطه باللّه ؛والإنفاق مما رزقه اللّه الذي يربطه بالحياة .
وقفة مع صاحب الميزان:
ويلاحظ صاحب تفسير الميزان أنَّ كلمة] مِّن رَّبِّهِمْ[ توحي بأنَّ هناك هداية من اللّه بعد التقوى ،تختلف عن الهداية التي صاروا بها متقين ،وهي الهداية الأولى «قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة ،فإنَّ الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تتنبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى أمر خارج عنها ،وكذا احتياج كلّ ما سواها مما يقع عليه من حسّ أو وهم أو عقل إلى أمر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج ،فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحسّ ،منه يبدأ الجميع وإليه ينتهي ويعود ،وأنه كما لم يهمل دقيقةً من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة ،كذلك لا يهمل هداية النّاس إلى ما ينجيهم من مُهلكات الأعمال والأخلاق ،وهذا هو الإذعان بالتوحيد والنبوّة والمعاد ،وهي أصول الدِّين ،ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيته ،واستعمال ما في وسع الإنسان من مالٍ وجاهٍ وعلمٍ وفضيلةٍ لإحياء هذا الأمر ونشره ،وهذان هما الصلاة والإنفاق .ومن هنا يعلم: أن الذي أخذه سبحانه من أوصافهم هو الذي تقضي به الفطرة إذا سلمت ،وأنه ،سبحانه ،وعدهم أنه سيفيض عليهم أمراً سمّاه هداية ،فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت ؛هداية سابقة وهداية لاحقة ،وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل ،ومن الدليل على أنَّ هذه الهداية الثانية من اللّه سبحانه فرع الأولى ،آيات كثيرة كقوله تعالى:] يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ[،[ إبراهيم:27] وقوله تعالى:] يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللّه وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ به[ [ الحديد:28] .وقوله تعالى:] إِن تَنصُرُواْ اللّه يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[ [ محمَّد:7] .وقوله تعالى:] وَاللّه لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ[ [ الصف:7] .وقوله تعالى:] وَاللّه لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[ [ الصف:5] إلى غير ذلك »[ 3] .
وما يمكن ملاحظته هنا ،أنَّ الآيات التي استدل بها صاحب الميزان على وجهة نظره ،لا تؤيد ما استفاده ،لأنَّ تثبيت اللّه تعالى للمؤمنين «بالقول الثابت » ،وإيتاءه لهم «كفلين من رحمته » ،وجعله لهم «نوراً » يمشون به ،ومن ثُمَّ نصره لهم وتثبيته لأقدامهم ،ونحو ذلك ،إنما تمثّل الآثار اللازمة للتقوى والإيمان باللّه وبرسوله ونصرتهم للّه ،فهي نتيجة لهذه الأمور وليست شيئاً منفصلاً عنها ،وذلك من خلال سببية المقدّمات للنتائج في الواقع الكوني للوجود ،والواقع العملي للإنسان ،وهذا لا يمنع صدق النسبة إلى اللّه في كلّ شيء باعتباره مسبّب الأسباب ،أو قل السبب الأعمق في وجود كلّ شيء ،في المبدأ والتفاصيل .
وقد نجد أنَّ اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ،من مظاهر سلامة الفطرة ،باعتبارهما مظهراً للخضوع للّه في ربوبيته ؛ليس واضحاً ،لأنَّ هذين الأمرين لم ينطلقا من حالة ذاتية للإنسان ،بل من التشريعات الإلهية .
ومن خلال ذلك ،نستطيع التأكيد أنّ كلّ هذه الأمور كانت من مظاهر الهدى القرآني الذي ينفتحفي مفاهيمهعلى إثارة التفكير بالغيب كوسيلة من وسائل الإيمان به ،وتوجيه الإنسان إلى إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه اللّه ،وإلى الحديث عن الوحي في رسالة النبيّ وفي رسالات الأنبياء الذين تقدّموه من أجل الوصول إلى الإيمان به ،وتركيز القاعدة الفكرية للإيمان باليوم الآخر من خلال مواجهة الشبهات التي تستبعده ،وتقريب الأسس التي يرتكز عليها .
إنَّ القرآن لم ينزل على المتقين الذين عاشوا التقوى ومارسوا آثارها قبله ،بل نزل على النّاس الذين انفتحوا على هداه من خلال وعيهم للقاعدة التي ارتكزوا عليها ،فاهتدوا به في تفاصيل العقيدة كلّها ،وربما كان الواقع التاريخي للمجتمع الذي نزل فيه القرآن يؤكد غياب هذه الاعتقادات والأعمال عن حركة الإنسان فيه ،واللّه العالم .
] وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ لأنَّ الفلاح والنجاح يتمثّلان في أن يعرف الإنسان طريقه جيداً في بدايته ونهايته وفي خطوات الطريق .وهذا هو الذي ينطلق منه الإنسان المسلم في ما يتعلّق بشؤون العقيدة .وقد نفهم ،من خلال ذلك كلّه ،أنَّ التقوى ليست شيئاً آخر غير الإيمان ،بل هي الإيمان المتفاعل في الفكر والحياة ،لأنَّ اللّه تحدّث عن المتقين بأنهم الذين ينطلقون في الاتجاه الصحيح في العقيدة والعمل .