الإيمان بالرسالات السَّماوية ،شرط أساس:
] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ[،هذه هي الصفة الرابعة من صفات المتقين ،وهي صفة الإيمان بالوحي المنزل على النبيّ محمَّد ( ص ) ،لينسجموا في إيمانهم مع كلّ مفهوم من مفاهيم الإسلام ،ومع كلّ حكم من أحكامه ،لئلا يبقى هناك أيّ فراغ فكري أو تشريعي أو روحي يواجه به الإنسان حياته ،ليبحث في أفكار الآخرين وتشريعاتهم عمّا يسدّ هذا الفراغ ،بل يعيش الامتلاء الفكري والوجداني والقانوني في كلّ المجالات .
ثُمَّ ،الإيمان بوحدة الرسالات .فالمؤمنون هم الذين يؤمنون برسالة النبيّ محمَّد ( ص ) على أنها امتداد للرسالات السابقة التي لم تكن رسالات بشرية ،بل هي وحي منزل من اللّه سبحانه وتعالى .وفي هذا الجوّ نشعر بأنَّ الإنسان المسلم لا يعيش أية عقدة نفسية إزاء الرسالات الأخرى كالنصرانية واليهودية ،ولا يرفض مقدساتها الأصيلة ،بل الإنسان المسلم هو الذي يؤمن بالأديان الأخرى وبمقدساتها ،ولكن ضمن إطارها الزمني الخاص الذي أراد اللّه للرسالات أن تعيش فيه ،لأنَّ الإسلام يعتبر نفسه امتداداً للأديان الأخرى ومكملاً لها ،كما كان كلّ دين مكمّلاً للدِّين الذي سبقه .وقد ورد عن المسيح ( ع ) قوله: «إنما جئت لأكمل الناموس » ،وورد عن النبيّ ( ص ) قوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » .
وقد نستطيع أن نفهم من هذا كلّه أنَّ الإسلام يجمع الخصائص الأساسية في اليهودية والنصرانية ،وفي رسالة إبراهيم ( ع ) والرسل من قبله ،ويحويبالإضافة إلى ذلكخصائص جديدة اقتضتها طبيعة الحاجات التي استحدثتها الحياة بعد انتهاء دور الرسالات .ولذلك ،فإنَّ المسلمكما قلنالا يعاني أية عقدة من هذه الجهة ،بل قد يعاني من عقدة الانحراف العقيدي والتشريعي الذي وصلت إليه هاتان الديانتان ،وهذا ما أظهرته النصوص القرآنية الكثيرة التي حدّثتنا عن تحريف التوراة والإنجيل من قبل أهل الكتاب .
وقد نستنتج من ذلك أنَّ المسلم لا يعيش الروح الطائفية المعقدة تجاه الأديان الأخرى ،وذلك لارتباطه بالمفاهيم الإسلامية الأصيلة ،وإذا صدرت أحياناً مواقف سلبية تناقض تلك الروح الإسلامية المتسامحة مع الأديان الأخرى ،فإنما مردها إلى تعقيدات وضغوط الواقع السياسي والاجتماعي الذي يفرز مثل هذه المواقف ،وبالتالي فإنَّ السلبيات ليست ناتجة من خلال نظرة المسلم تجاه الدِّين الآخر أو المقدسات الأخرى ،وذلك على العكس تماماً مما نجده عند الآخرين ؛فاليهود مثلاً ،ينكرون النصرانية والإسلام كدين ،والنصارى ينكرون الإسلام كدين ،لذلك نجدهم معقّدين من جهتنا دينياً .
وعلى ضوء الانفتاح الإسلامي على اليهود والنصارى باعتبارهم أهل كتاب يؤمن به المسلمون من خلال إسلامهم ،أطلق القرآن الكريم الدعوة إلى الحوار معهم وذلك في قوله تعالى:] قُلْ يا أهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّه فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[ [ آل عمران:64] باعتبار أنَّ المفاهيم الروحية والأخلاقيةبالإضافة إلى المسألة التوحيدية في خطّها العامتمثّل قاعدة التوافق التي يمكن أن ينطلق معها اللقاء ،ويتحرّك فيها الحوار ،ويرتكز عليها التعايش الذي طرحه الإسلام في علاقة المسلمين بأهل الكتاب .
دور الاعتقاد بالآخرة:
] وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ[ الإيقان هو الاعتقاد .والإيمان بالآخرة هو الصفة الخامسة من صفات المتقين .وهو من أقوى الأسس العقيدية لبناء الشخصية الإسلامية التقيّة ،وسنعرففي ما نستقبل من آياتأنَّ قيمة الإيمان باللّه واليوم الآخر ،هي في تعاظم الشعور بالمسؤولية لدى الإنسان ،لأنها تجعل للحياة هدفاً ،وتمدّ الحياة إلى مجالٍ أبعد من الحياة الحسية التي نمارسها .وبهذا يستطيع الإنسان الارتباط بالمثل العليا ارتباطاً أعمق على أساس إيمانه باللّه واليوم الآخر ،فإذا اجتمعت هذه الصفات في نفس الإنسان وفي عمله ،أمكن له أن يطمئن إلى أنه يسير على هدى من ربّه في ما يفكر ويعمل ،وأنه يتحرّك في اتجاه الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة .