{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} بعد هذه الأوصاف الذاتية التي يؤمنون فيها بالغيب ، فتخشع قلوبهم لذكر الله ، ويقيمون الصلاة فتتجه قلوبهم إليه ، وينفقون مما رزقهم الله تعالى على أنفسهم وعلى عباد الله تعالى إنفاقا في غير تبذير أو إسراف ، بعد ذلك بين الله تعالى
أن من صفات هؤلاء المتقين أنهم من أجل صفاتهم أنهم يؤمنون برسالات الله إلى خلقه بالكتب المنزلة التي أنزلها قبل القرآن ، وبالقرآن المنزل من عند الله العلي الحكيم ، ويؤمنون بالشرائع التي جاءت في القرآن الكريم وفي الكتب التي أنزلت ، لا يفرقون بين أحد من رسله ، ولا بين كتاب من كتبه إلا أن يكون قد نسخ الله تعالى بعض أحكام في كتب أنزلها .
فقوله تعالى:{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك} هم المتقون الذين يؤمنون ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، وتكرار( الاسم ) الموصول في قوله تعالى:{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك}لا يدل على المغايرة فيمن نزلت فيهم الآيات ، إنما يدل على المغايرة في الصفات ، وإن كان الموصوف واحدا ، كما يقول الشاعر:
إلى الملك القرم{[40]} وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
وقد ادعى بعض المفسرين أن قوله تعالى:{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك} إلى آخر الآية . إنما نزلت في اليهود الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم:كعبد الله بن سلام وغيره ، وينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم:( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين:رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، وآمن بي ، ورجل مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه ، ورجل أدب جاريته ، فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها وتزوجها ){[41]} .
والحق أن فصل{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك} عن سياق ما قبلها من غير دليل – مخالفة لظاهر السياق من غير باعث يبعث على ذلك ، والسياق واضح متسق على أن ذلك كله وصف للمتقين ، فهم لإيمانهم بالحق ، وخشوع قلوبهم يتقبلون الهدايات السماوية مذعنين غير معاندين ولا منحرفين ، وإن المتقين يشملون من اتصف بتقوى الله تعالى مصغين إلى تكليفه ، مؤمنين بغيبه مقرين بحق عباده ، وهم من كل خلق الله ، لا فرق بين عربي وكتابي ، ولا من كان أصلا وثنيا ، أو كان يهوديا أو نصرانيا ؛ فمن اتقى الله واستقام على الجادة وآمن بالغيب واتجه إلى ربه ، فالآية تشتمل عليه ، ولا يخرج عنها ، فالعموم أولى وأوفق مع السياق من الخصوص .
والذي أنزل إليك في قوله تعالى:{ يؤمنون بما أنزل إليك} هو القرآن الكريم ، وما اشتمل عليه من تكليفات وشرائع ، وما جاء به من أخبار الماضين ، وقصص الغابرين ، ولقد قيل إن القرآن لم يكن قد نزل كله ، فكيف يكون الإيمان به قبل نزوله كله ، وإنه يرد ذلك القيل بأن بعض القرآن قرآن في دلائل إعجازه ، وأن الإيمان بالجزء إيمان بالكل ، وأنه يصح أن يطلق سماع القرآن على سماع بعضه ، كما قال تعالى عن سماع الجن للقرآن ، إذ قال:{ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . . . ( 29 )} [ الأحقاف] وما سمعوا إلا جزءا منه .
وإنه لا وجه للاعتراض بأن القرآن لم يكن قد نزل إلا بعضه ، لأن الله تعالى يقول:{ يؤمنون بما أنزل إليك} وقد ابتدأ النزول ، فابتداء التنزيل المستمر نزول له كله ، كما قال تعالى:{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن . . . ( 185 )} [ البقرة] فما نزل فيه إلا أوله ، ولكنه مستمر التنزيل إلى أن كمل الدين .
وإن الآية الكريمة تبين أن الإيمان الكامل بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليه من شرائع يتقاضى المؤمن أن يكون مؤمنا بكل النبيين السابقين وشرائعهم كما قال تعالى:{ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم . . . ( 152 )} [ النساء] ولقد روى في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم ، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا ، والذي أنزل إليكم ){[42]} .
وإن الإسلام دين الوحدانية ، ودين الوحدة الإنسانية ، ودين الرسالة الإلهية التي لا تفرق بين نبي ونبي إلا في آيات الله تعالى المثبتة للرسالة التي تخص كل نبي ، وكلها يجب الإيمان به وتصديقه ، ومن لم يصدق فقد كفر .
ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أن شأن أولئك المتقين{ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} فهذا ما جاءت به الديانات الإلهية كلها ، فأساس الإيمان في هذه الأديان ، وفي كل دين حق أن يؤمن بأن الحياة الآخرة هي المآل ، وأن الحياة الدنيا سبيل إلى الحياة الآخرة ، ذلك أن هذه الحياة فيها تنازع الخير والشر ، وأنه معتركها ، وأن الشر كثيرا ما ينتصر على الخير فيها ، فلا بد للخير من أمل يكون فيه الانتصار للخير ، وتجزى كل نفس ما كسبت ؛ ولذلك كان الإيمان بالآخرة ، إيمانا بانتصار الخير على الشر ؛ ولذلك قال تعالى:{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله . . . ( 31 )} [ الأنعام] .
وقوله تعالى:{ وبالآخرة هم يوقنون} ، فيه الإيقان مصدر أيقن ، وهو إحكام العلم وإتقانه ، بحيث لا يكون شك ولا ريب في أية ناحية من نواحيه ، ولا أي حقيقة من حقائقه ، وبمقدار قوة الإيمان بالآخرة تكون قوة الإيمان فمن كان مؤمنا بربه حق الإيمان كان مؤمنا بالآخرة كأنها عيان .
وقد أكد سبحانه ضرورة الإيمان بها في تقديم الجار والمجرور على الفعل ، فإن التقديم فيه مزيد من الاهتمام بهذا اليقين ، واختصاص ، أي أنه لا يؤمن إلا بالحياة الآخرة ، وما فيها من جنة ونعيم ، وبعث وحساب ، وجحيم ، كأنه رأي العين ، وأن الحياة الدنيا ليست موضع إيمان ، فالحياة الآخرة وحدها هي الجديرة بالإيمان ، وكان التأكيد بكلمة{ هم} فهو تصوير لليقين بصورة الجملة الاسمية ، والجملة الاسمية تدل على بقاء اليقين واستمراره بحيث لا يضطرب ولا يتزعزع ولا ينسى ذلك اليوم أبدا .
وقد يقال ما موضع{ وبالآخرة هم يوقنون} من قوله تعالى:{ يؤمنون بالغيب} ؟ ونقول في ذلك إن قوله تعالى:{ يؤمنون بالغيب} كما فهمنا ، وكما ذكرنا فيه أنهم لا يؤمنون بأن الوجود مادة ، ليس فيما وراءه وجود ، كأولئك الملاحدة الذين يظنون أن المادة هي "الموجود"وحدها ، بدون أن يكون وراءها ما يؤمنون به ، فذكر الله سبحانه وتعالى أن النفس التقية الخاشعة الخاضعة ، لا تقول:خلقنا الله عبثا ، بل تدرك بالفطرة أن وراء المادة معنى وحياة .
أما قوله تعالى{ وبالآخرة هم يوقنون} فهي تخصيص من العموم والله ولي المؤمنين في الدنيا والآخرة .