{ الذين يؤمنون بالغيب} هذا هو الوصف الأول للمتقين الذين يتلقون هدى الله تعالى كما تتلقى الأرض الطيبة الغيث فتأتي بأطيب الثمرات . والإيمان:التصديق ويتعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتراف والإقرار والإذعان ، والخضوع ، ويتعدى باللام ويتضمن حينئذ معنى الاستسلام أو الاستجابة كما قال تعالى:{ وما أنت بمؤمن لنا . . .17} [ يوسف] قوله{ فما آمن لموسى . . .83} [ يونس] ، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن اليهود إذ يتآمرون فيقول بعضهم لبعض{ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم . . .73} [ آل عمران] .
وأول وصف من أوصاف المتقين الذي يميزهم –وهو في غالب أحوالهم سبب لتقواهم- الإيمان بالغيب . والغيب:كل ما يغيب عن الشخص ويستتر ولقد فسره العلماء بما يتفق مع أن يكون وصفا للمتقين ، فقالوا أقوالا مختلفة في ألفاظها ، وتتلاقى في مضمونها أو المراد منها –فيما نعلم- كلها ، ففسروه بأن الغيب هو الله تعالى ، لأننا نؤمن به ولا نراه ، فالبرهان يوجب الإيمان به ، وهو لا يرى بالحس بل يرى بالقلب ، وفسروه بأنه القدر ، وفسروه بأنه الإيمان بالملائكة ، وفسروه بالقرآن وما فيه من أخبار الملائكة واليوم الآخر والجنة والنار ، وقال آخرون:الغيب كل ما اخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي العقول إليه من علامات الساعة والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة . . . إلخ .
والحق أنه لا تعارض بين هذه الأقوال ، بل هي متلاقية في جملة معانيها .
وإنا نرى أن الإيمان بالغيب هو الإيمان بما وراء الحس من أمور غيبها الله تعالى عن عقولنا ، وبيان ذلك أن الناس قسمان:ضالون ومتقون .
فالضالون هم الذين لا يؤمنون إلا بالمادة ، ولا يعرفون غيرها وينكرون ما عداها ، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، ولا يؤمنون بشيء وراء ذلك ، ويقول قائلهم:الطبيعة خلقتنا ونرد إليها فلا يؤمنون بإله ولا بروح إلا أن تكون عرضا من أعراض المادة ، وهؤلاء منهم الملاحدة ومنكرو الأديان .
والقسم الثاني:أمارتهم أنهم يؤمنون بالحس على أنه خاضع للغيب ، فهم لا يقصرون إيمانهم على ما يحسون وما يرون وما يبصرون ، بل يؤمنون بأن وراء المادة عالما كبيرا ، وأن مدبر الكون ومنشئه هو صاحب السلطان المطلق فيه ، فلله تعالى محيانا ومماتنا .
إن فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة هو الإيمان بالغيب ، فالمؤمن أول خلاله الإيمان بالغيب والزنديق لا يؤمن إلا بالمادة .
إن الإيمان بالغيب يجعل النفس دائما خاضعة متطامنة{[36]} لا تستنكف عن عبادة الله تعالى ولا تستكبر ، ولقد كان ذلك ل{ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب33} [ ق] وإذا كان الإيمان بالغيب يولد الخشية في النفس ، فذلك هو لب الإيمان كما قال تعالى:{ إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير 12} [ الملك] .
{ ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} كانت الصفة الأولى للمتقين إيمانا بالغيب ، وما يكنه من مستورات عن المحسوسات ، تولد في النفس الخشية والإحساس بحاجة الجسم إلى الروح ، وبأن الروح فيما وراء المشاهد هي التي تسير هذا الوجود الإنساني ، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان إلا ليحاسب على ما قدم من شر أو خير ، وأنه سيرى ما اكتسب إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
بعد ذكر هذه الصفة النفسية ، ذكر صفتين أخريين تنبعثان من النفس ولكن لهما مظهر عملي ، وهما إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه الله سبحانه وتعالى .
والصلاة أصلها على وزن فعلة ، من صلى فأصل الصلاة صلوة ، فنقلت فتحة الواو إلى ما قبلها ، فصارت صلاة ، والصلاة كانت معروفة عند العرب بأنها الدعاء . ومنه قوله تعالى{ وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم103} [ التوبة] وإطلاقها على الصلوات الخمس من قيام وقراءة ، وركوع وسجود وتحيات- اصطلاح إسلامي .
ولقد فسر بعض العلماء الصلاة هنا بالدعاء ، أي الضراعة إلى الله تعالى ، والاتجاه الروحي إليه راجيا ما عنده مؤمنا به مستجيبا لقوله تعالى{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين55} [ الأعراف] .
ولكن الأكثرين- وهو الظاهر الذي يبدو من القول- على أن المراد بها الصلاة المكتوبة وإن الاتجاه الروحي بالضراعة والدعاء تتضمنه الصلاة المكتوبة ، وإن الصلاة قد فرضت في مكة ، وصارت متعارفة ، كغيرها من الكلمات التي كان في معناها عموم ثم خصصها الإسلام .
وإقامة الصلاة الإتيان بها مستوية مقومة معدلة قد استوفت أركانها ظاهرا وباطنا ، فكانت مشتملة على الخشوع والحضور ، واستحضار عظمة الله تعالى في كل لفظ يذكره ، ويعبد الله بهذه العبادة ، كأنه يرى الله سبحانه وتعالى ، ويتوالى ذلك في صلواته عامة النهار أو أطرافا من النهار وزلفا من الليل ، فإن كانت صلاته كذلك كان محسا برقابة الله تعالى ، ومن أحس برقابة الله لا يعصيه ، ولذلك قال الله تعالى{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . .45} [ العنكبوت] وقال عليه الصلاة والسلام ( الصلاة عماد الدين ) .{[37]}
وبعض المفسرين يفسر إقامة الصلاة بالمداومة عليها من غير تقصير ، وبعضهم يفسرها بالمسارعة إليها عند النداء بها ، لقوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة . . .9} [ الجمعة] وبعضهم يفسرها بالسعي إليها عند إقامة الجماعة فيها ، ولكن يرد ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يمشوا إليها في سكينة ووقار .
وإن التفسير الأول للإقامة هو الأوضح البين ، والمعاني الأخرى تدخل في ضمنه ، أو تقتضيها .
وبعد أن بين الله تعالى الوصف الذي يترتب على التقوى ، والإيمان بالغيب ، ذكر وصفا آخر عمليا ونفسيا ، فكل ما يذكره الإسلام من تكليفات ، وصفات للمؤمن ، لا ينظر فيها إلى ناحية العمل والباعث عليه ، والنية التي هي طهارة النفس ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ){[38]} .
الوصف العملي النفسي ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله:{ ومما رزقناهم ينفقون} وفي هذا الوصف بيان أن الخير الذي يكون بالصلاة في الضراعة إليه سبحانه وتعالى ينعطف على التقي نفعا للناس يقصد التقرب به إليه سبحانه وتعالى ، فهو يتقرب إلى الله تعالى بذكره الدائم ، وضراعته القائمة ، ويتقرب إلى الله تعالى بالإنفاق على خلقه ، ومد يد المعونة لغيره ، وسد حاجاتهم ورفع فاقتهم لرضا الله ، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى .
والرزق هو:العطاء ، وهو من رزق يرزق رزقا ، وهو بمعنى اسم المفعول ك "طحن"بمعنى مطحون ، و"رعى"بمعنى مرعى ، وذبح بمعنى مذبوح كقوله تعالى:{ وفديناه بذبح عظيم ( 107 )} [ الصافات] .
والمرزوق ما ينعم به الله تعالى على الإنسان من متاع الحياة الدنيا ، من حيوان ونقود ، ومطاعم ومساكن ، والإنفاق إعطاؤها في كل سبل الخير ، وتشمل بذلك الزكوات ، والإنفاق على من يعولهم ، والإنفاق على نفسه ليقوى على الحياة ، ويقوم بما يجب عليه من طاعات ، ومعاونة للضعفاء بقوته ، وليقوى على الجهاد في سبيل رفع الحق وخفض الباطل ، وإمداد جند الله تعالى بما يحتاجون إليه من عتاد وأسباب القوة كما قال تعالى:{ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة . . .( 195 )} [ البقرة] .
والإنفاق كالإنفاد ، بيد أن الإنفاد يرمي إلى إنهاء المال ، وألا يبقى منه شيء ، والإنفاق يبقي . وقد خص بعض العلماء الرزق بأنه خاص بالحلال ، فإن الله تعالى لا يرزق إلا بالحلال ، والحق أن الله تعالى يفيض على ابن آدم بكل ما يقيم به أوده ، ويعين به غيره ، كما قال تعالى:{ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها . . . ( 6 )} [ هود] وابن آدم هو الذي يجعل منها الحلال والحرام ، فإن كسبه كسبا طيبا لا خبث فيه فهو حلال ، وفي الحلال الثواب ، وفي الحرام العقاب . ولقد قال تعالى:{ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون( 59 )} [ يونس] .
والله تعالى يعد الرزق نعمة ، وإذا أنفق في الحلال وكسب من الحلال كان من القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى ، ولا يتقرب إليه سبحانه بكسب يكون طريقه ليس بحلال خالص . ويروى أن رجلا يكسب من الغناء والضرب على الدف فقال:يا رسول الله أراني لا أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي بالغناء في غير فاحشة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة ، كذبت أي عدو الله ، والله لقد رزقك الله تعالى حلالا طيبا ، فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله ){[39]} .
وفي العبارة السامية:{ ومما رزقناهم ينفقون} إشارتان بلاغيتان:
إحداهما:تقديم{ مما رزقناهم} على{ ينفقون} وفي ذلك بيان على أنهم لا ينفقون من كسب خالص لهم بل إنهم ينفقون من رزق الله تعالى ، فهو وحده الرزاق إن شاء أعطى ، وإن شاء منع ، ولست أيها المنفق ترزق نفسك إنما يرزقك الله وحده ، فأنت تعطي من عنده ، وتجود على نفسك وعلى عباده من عنده ، فالتقديم للقصر أولا ، وللاهتمام بالإنفاق ثانيا .
الثانية:أن الإنفاق لا يكون بكل ما رزق الله تعالى بل يكون ببعضه وإن كان الكثير ف "من"في قوله تعالى:{ ومما رزقناهم ينفقون} للتبعيض ؛ أي:ينفقون بعض ما أعطاهم الله ، فلا يكونون كالمبذرين ، وإن المبذرين إخوان الشياطين ، والإنفاق في سبيل الله تعالى لا يستكثر فيه الكثير ، فكما قال ابن عباس رضي الله عنه:إنفاق ألف في بر لا سرف ، وإنفاق درهم في غير بر سرف . وإنما موضع الإسراف أو الزيادة في الإنفاق على نفسه ، والله تعالى عليم خبير .