{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} الإشارة هنا إلى الحروف{ الم} التي تتألف من كلمات الكتاب العزيز الحكيم ؛ ولذلك قيل إن{ الم} اسم للسورة ، ولكن نقول إن هذه الإشارة إلى الحروف باعتبارين:
أولهما:أن هذه هي الحروف الذي كون منها الكتاب المعجز الذي تحدى به الإنسانية كلها .
والثاني:أنها اسم للسورة التي افتتحت بها ، وذلك من قبيل إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء ، أو أن جزء القرآن قرآن يتحدى . ألم تر أن الله تعالى تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله .
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ} والإشارة هنا للبعيد ، وموضوعها قريب ؛ لأن الحروف جاء بعدها فورا ذكر الكتاب فكان الظاهر أن تكون الإشارة بما يدل على القرب ؛ ك ( هذا ) الكتاب ، ولكن لأن{ الم} تدل على السورة التي هي جزء متكامل من الكتاب ، أو الكتاب نفسه ، وقد نزل من الروح الأقدس ، فنزل من العلا إلى النبي المرسل ، فكان ذلك إشعارا بالبعد بين الملكوت الأعلى وخلق الله سبحانه وتعالى ، أو يقال:إن الإشارة بالبعيد تنويه بذكره وعلو مقامه فإنه تكون الإشارة بالبعيد في هذا المقام ، وأي مقام يقارب كتاب الله تعالى ؟! فهو علي في ذاته ، ثقيل في ميزانه كما قال تعالى:{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 5} [ المزمل] .
وفي قوله تعالى:{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} ثلاثة وقوف:
أولها:الوقوف عند{ الْكِتَابُ} ، وتكون{ ذَلِكَ} مبتدأ ، والكتاب خبر ، ويكون فيه تعريف الطرفين الذي يدل على القصر ، أي ذلك وحده هو الجدير بأن يسمو ، فلا يعلو علوه كتاب ، ولا يناصي سمته مقروء سواه ، إذ هو تنزيل من رب العالمين ، وفيه علم بشرائع الله تعالى ويكون قوله تعالى:{ لاَ رَيْبَ فِيهِ} جملة مستقلة على هذه القراءة ، وهي تأكيد لمعنى العلو والسمو فيه ، إذ إنه لا شك في حقائقه ، وهي بينة تهتدي إليها العقول ، ولا ترتاب فيها فهو حجة بصدقه في ذاته ، وإدراك العقول لحقائقه ، وهذا شرف ذاتي فيه ، وهو لا ريب في أنه من عند الله ، إذ تحدى المقاول{[33]} من قريش وفحول الكلام منهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ، فكان ذلك شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي .
والثاني:الوقف عند{ لاَ رَيْبَ} ، ومؤداها مقارب من مؤدى القراءة السابقة تقريبا ، إذ المؤدى أن يكون المعنى ، ذلك هو الكتاب بلا ريب ، ويكون قوله تعالى:{ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} جملة جديدة مستقلة ، وتكون لبيان كماله ، فوق أنه لا ريب فيه .
والثالث:الوقوف عند كلمة{ فِيهِ} ، ويكون المعنى كالمعنى السابق ، ثم يكون قوله{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} جملة مستقلة ، وهذه القراءات تتجه كلها إلى سمو القرآن وعلوه ، وأنه فوق طاقة البشر ، وفوق علم الناس ، إنه كتاب الله العلي الحكيم .
ومعنى{ لاَ رَيْبَ فِيهِ} أنه لا يعتريه الريب لكمال حقائقه ووضوح مقاصده ، والبراهين القاطعة المثبتة أنه من عند الله تعالى ، فلا مساغ لمرتاب أن يرتاب . وإذا كان قد وقع فيه إنكار ، فلأنهم جحدوا آيات الله تعالى ، واستيقنتها أنفسهم والنفي لوقوع الريب منه في ذاته ، ويضل ناس فيجحدون ولا يؤمنون ، ولا ينفي ذلك أنه لا مكان للريب ، ولا موضع له ، إذ هو ارتياب حيث اليقين ، وإنكار حيث يجب الإيمان ، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه .
{ هدى للمتقين} الهدى مصدر على وزن فعل ، كالسرى والبكى ومعناه الدلالة على الطريق الموصل للغاية الذي لا اعوجاج فيه ، ولا تستعمل غالبا إلا للتوصيل إلى الخير ، بدليل مقابلتها بالضلالة في قوله تعالى:{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين16} [ البقرة] ، وبدليل نسبة الهدى إلى الله تعالى ، فقد قال تعالت كلماته:{ قل إن الهدى هدى الله . . .73} [ آل عمران] والمهتدي من انتفع بما وجد من هداية{ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها108} [ يونس] .
وإذا قيل:فإن الهداية إنما تكون للضالين ليسترشدوا ، ويسيروا في طريق الحق ، ويبتعدوا عن الغواية ، وما يدفع إليه من ضلالة كما قال تعالى:{ ووجدك ضالا فهدى7} [ الضحى] .
نقول في الإجابة عن ذلك:إن المراد بالمتقين ليس من وصلوا إلى أقصى درجات الهداية إنما المراد من شارفوها وطلبوها وأرادوها ، وحاولوا الازدياد من العلم ، ولم تكن قلوبهم متحجرة ، مبلسة لا تسترشد ولا تهتدي ، وبيان ذلك أن الله تعالى خلق النفوس وسواها ، وألهمها فجورها وتقواها .
فمن النفوس من فطرها الله تعالى على الفطرة المستقيمة المدركة للحق في ذاته التي تتجه إلى الحق تبتغيه وتريده ، وتظل في حيرة حتى تجد المرشد من السماء برسول مبين يرشدها إلى صراط مستقيم ، كأولئك الحنيفيين الذين رفضوا عبادة الأوثان لأنها لا تنفع ولا تضر ولا يتبعها إلا الغاوون .
إن هذه نفوس متقية تبتغي الرشاد ، فتكون مصغية للحق عند الدعوة إليه متبعة للنور إذا أشرق ، وهذا ما نراه موضعا للتعبير بقوله تعالت كلماته:{ هدى للمتقين} .
والمتقون مشتق من الوقاية ، يقال:وقاه الله تعالى ، ووقى نفسه السوء وقال تعالى:{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون9} [ الحشر] .
واتقى:افتعل من وقى ، فهي في أصلها:اوتقى ، ثم قلبت الواو تاء ، فأدغمت في تاء الافتعال ، فصارت اتقى ، ومنه أخذت التقى ، والتقاة ، كما قال تعالى:{ اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون102} [ آل عمران] .
والمتقون مراتب في إدراكهم لتقوى الله تعالى ، وأعلاها:إدراكهم لمعنى الحق وخضوعهم لما يطلبه ، وإنهم بهذا يطيعونه ويستجيبون له ، ويلتزمونه ، وينطبق عليهم قول الله تعالى:{ وألزمهم كلمة التقوى . . .26} [ الفتح] فإذا علا في نفوسهم طلب الحق والاستعداد له ، تركوا شر الأشرار مهتدين بهديه ، وتجنبوا الإساءة إلى غيرهم ، فإذا ساروا في مدارج الهداية والتقوى نزهوا أنفسهم عن كل ما يخالف الحق ، وصارت قلوبهم نورا مبصرا ، وكانوا أولياء الله تعالى ، وينطبق عليهم قول الله تعالى:{ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض . . . .96} [ الأعراف] ألا إن هؤلاء هم المتقون الذين ينتفعون بهداية الله ، وإن علم الله تعالى وهدايته قد مثله النبي صلى الله عليه وسلم بغيث ينزل من السماء فيجيء إلى أرض طيبة فتنبت النبات الطيب ، وينزل على أرض لا تنبت ولكن ينتقل منها إلى أخرى تنبت فيها النبات الطيب ، وهناك أرض هي قيعان لا تنبت ولا ينتقل منها إلى غيرها .{[34]}
ولقد ذكر الزمخشري في تنسيق هذه الآيات{ ألم 1 ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين2} كلمات طيبة محققة مفادها أن قوله تعالى:{ الم} جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و{ ذلك الكتاب} ثانية و{ لا ريب فيه} جملة ثالثة ، و{ هدى للمتقين} رابعة ، وقد أصاب بترتيبها من البلاغة وموجب حسن النظم ، حيث هي متناسقة هكذا من غير حرف نسق ( أي عطف ) وذلك لمجيئها متآخية آخذة بعضها بعنق بعض ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة .
بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشار إلى أنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال ، فكان تقريرا لجهة التحدي وشدا من أعضائه ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة وتسجيلا بكماله ، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة . وقيل لبعض العلماء:فيم لذتك ؟ قال:في حجة تتبختر اتضاحا وفي شبهة تتضاءل افتضاحا .
ثم أخبر عنه أنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن ترتب هذا الترتيب الأنيق ، ونظمت هذا التنظيم السري{[35]} ، من نكتة ذات جزالة ، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة:الحذف ووضع المصدر الذي هو موضع الوصف الذي هو هاد ، وإيراده منكرا ، والإيجاز في ذكر المتقين ، زادنا الله إطلاعا على أسرار كلامه ، وتبينا لنكت تنزيله وتوفيقا للعمل بما فيه .