{ ذلك الكتاب} الكتاب بمعنى المكتوب وهو اسم جنس لما يكتب والمراد بالكتاب هذه الرقوم والنقوش ذات المعاني .والإشارة تفيد التعيين الشخصي أو النوعي .وليس المراد هنا نوعا من أنواع الكتب بل المراد كتاب معروف معهود للنبي صلى الله عليه وسلم بوصفه .وذلك العهد مبني على صدق الوعد من الله بأنه يؤيده بكتاب{[5]} [ تام كامل كافل لطلاب الحق بالهداية والإرشاد ، في جميع شؤون المعاش والمعاد] فأشار بذلك إليه .ولا يضر أنه لم يكن موجودا [ كله وقت نزوله أمثال هذه الإشارة ، فقد يكفي في صحتها وجود البعض .وقد كان نزل من القرآن جملة عظيمة قبل نزول أول هذه السورة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها فكتبت وحفظت ، فالإشارة إليها إشارة إليه] بل يكفي في صحة الإشارة أن يشار إلى سورة البقرة نفسها لأنه يصح فيها وصف{ هدى للمتقين} والأول أشبه ، والإشارة إلى الكتاب كله عند نزول بعضه إشارة إلى أن الله تعالى منجز وعده للنبي صلى الله عليه وسلم بإكمال الكتاب كله .
ومن حكمة الإشارة إليه بهذا الكتاب ( أي المكتوب المرقوم ) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابته دون غيره فهو الكتاب وحده ، ولا يضر أنه عند النزول لم يكن مكتوبا بالفعل لأنك تقول:أنا أملي كتابا ، أو هلم أمل عليك كتابا .والإشارة البعيدة بالكاف يراد بها بعد مرتبته في الكمال:وعلوها عن متناول قريحة شاعر أو مقول خطيب قوال ، والبعد والقرب في الخطاب الإلهي إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين ، ولا يقال:إن شيئا بعيدا عنه تعالى أو قريبا منه في المكان الحسي لأن كل الأشياء بالنسبة إليه تعالى سواء .وإنما القرب منه والبعد عنه تعالى معنوي وهو أقرب إلينا من أنفسنا بعلمه .
{ لا ريب فيه} الريب والريبة الشك والظنة ( التهمة ) والمعنى:أن ذلك الكتاب مبرأ من وصمات العيب فلا شك فيه ، ولا ريبة تعتريه ، لا من جهة كونه من عند الله تعالى ، ولا في كونه هاديا مرشدا ، ويصح أن يقال:إنه في قوة آياته ، ونصوع بيناته ، بحيث لا يرتاب عاقل منصف ، غير متعنت ولا متعسف ، في كونه هداية مفاضة من سماه الحق ، مهداة إلى الخلق ، على لسان أمي لم يسبق له قبله الاشتغال بشيء من علومه ، ولا الإتيان بكلام يقرب منه في بلاغته ، ولا في أسلوبه حتى بعد نبوته ، - ولهذا قال فيما يأتي قريبا{ 22 وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} وحاصله:أنه كذلك في كل من نظمه وأسلوبه وبلاغته ، ومن معانيه وعلومه وتأثيره في الهداية – لا يمكن أن توجه إليه الشبهة ، أو تحوم حوله الريبة ، سواء أشك في ذلك أحد بجهالته وعمى بصيرته – أو بتكلفه ذلك عنادا أو تقليدا – أم لا .
{ هدى للمتقين} خبر بعد خبر{[6]} والهدى مصدر في الأصل كالتقى والسرى والمراد بالهداية هنا الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة الخاصة والأخذ باليد على ما تقدم في تفسير المراد من{ اهدنا الصراط} لأن كونه هاديا للمتقين بالفعل غير كونه هاديا – دالا – سائر الناس من غير مراعاة أخذهم بدلالته ، واستقامتهم على طريقته ، وكلمة"المتقين "من الاتقاء والاسم التقوى وأصل المادة:وقى يقي .والوقاية معروفة المعنى ، وهو البعد أو التباعد عن المضر أو مدافعته ، ولكن نجد هذا الحرف مستعملا بالنسبة إلى الله تعالى كقوله{ فإياي فاتقون – واتقوا الله – واتقون يا أولي الألباب لعلكم تفلحون} فمعنى اتقاء الله تعالى اتقاء عذابه وعقابه ، وإنما تضاف التقوى إلى الله تعالى تعظيما لأمر عذابه وعقابه ، وإلا فلا يمكن لأحد أن يتقي ذات الله تعالى ولا تأثير قدرته ، ولا الخضوع الفطري لمشيئته .
ومدافعة عذاب الله تعالى تكون باجتناب ما نهى ، وإتباع ما أمر ، وذلك يحصل بالخوف من العذاب ومن المعذب ، فالخوف يكون ابتداء من العذاب وفي الحقيقة من مصدره ، فالمتقي هو من يحمي نفسه من العقاب - ولا بد في ذلك أن يكون عند نظر ورشد يعرف بهما أسباب العقاب والآلام فيتقيها .
وأقول الآن:إن العقاب الإلهي الذي يجب على الناس اتقاؤه قسمان:دنيوي وأخروي:وكل منهما يتقى باتقاء أسبابه ، وهي نوعان:مخالفة دين الله وشرعه .ومخالفة سننه في نظام خلقه فأما عقاب الآخرة فيتقى بالإيمان الصحيح ، والتوحيد الخالص ، والعمل الصالح ، واجتناب ما ينافي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل ، وذلك مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأفضل ما يستعان به على فهمهما وإتباعهما سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأولين من آل الرسول وعلماء الأمصار ، وأما عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم ، ولا سيما سنن اعتدال المزاج وصحة الأبدان ، وأمثلتها ظاهرة ، وسنن الاجتماع البشري ، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقف على معرفة نظام الحرب وفنونه ، وإتقان آلاتها وأسلحتها ، التي ارتقت في هذا العصر ارتقاء عجيبا .وهو المشار إليه بقوله تعالى{ 8:60وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} كما يتوقف على أسباب القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة والصبر والثبات والتوكل على الله واحتساب الأجر عنده{ 8:45 يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 46 وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} ونحن نبين معنى التقوى في القرآن في كل موضوع بما يناسبه كالتقوى في الأكل من الطيبات في سورة المائدة ( 5:91 ) ومثله في سياق تحريم الخمر منها ( آية 90 ) وغير ذلك فيراجع كل شيء في موضعه .وقال شيخنا في بيان المراد بهؤلاء المتقين ما معناه:كان من الجاهلين من مقت الأصنام ، وأدرك أن فاطر السموات والأرض لا يرضيه الخضوع لها ، وأن الإله الحق يحب الخير ، ويبغض الشر .فكان منهم من اعتزل الناس لذلك .وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال وتعظيم جانب الربوبية ، وذلك ما كان يسمى صلاة في لسانهم – وبعض الخيرات التي يهتدي إليها العقل في معاملات الخلق .
وكان من أهل الكتاب من وصفهم الله تعالى قوله{ 3:113 من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون 114 يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} وبقوله{ 5:82 ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى:ذلك بأن منهم قسّيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * 83 وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا اكتبنا مع الشاهدين} فأمثال هؤلاء من الفريقين هم المراد بالمتقين .ولا حاجة إلى تخصيص ما جاء في وصفهم بالمؤمنين منهم بعد الإسلام أو بالمسلمين ، بل أولئك هم الذين كان في قلوبهم اشمئزاز مما عليه أقوامهم ، وفي نفوسهم شيء من التشوف إلى هداية يهتدون بها ، ويشعرون باستعدادهم لها ، إذا جاءهم شيء من عند الله تعالى .فالمتقون في هذه الآية إذن هم الذين سلمت فطرتهم فأصابت عقولهم ضربا من الرشاد ووجد في أنفسهم شيء من الاستعداد لتلقي نور الحق يحملهم على توقي سخط الله تعالى والسعي في مرضاته ، بحسب ما وصل إليه علمهم ، وأداهم إليه نظرهم واجتهادهم .