( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)
قال ابن جريج:قال ابن عباس:ذلك الكتاب:هذا الكتاب . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والسدي ومقاتل بن حيان ، وزيد بن أسلم ، وابن جريج:أن ذلك بمعنى هذا ، والعرب تقارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر ، وهذا معروف في كلامهم .
و ( الكتاب ) القرآن . ومن قال:إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل ، كما حكاه ابن جرير وغيره ، فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع ، وتكلف ما لا علم له به .
والريب:الشك ، قال السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا ريب فيه ) لا شك فيه .
وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد . وقال ابن أبي حاتم:لا أعلم في هذا خلافا .
[ وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
واستعمل - أيضا - في الحاجة كما قال بعضهم:
قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
]
ومعنى الكلام:أن هذا الكتاب - وهو القرآن - لا شك فيه أنه نزل من عند الله ، كما قال تعالى في السجدة:( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ) [ السجدة:1 ، 2] . [ وقال بعضهم:هذا خبر ومعناه النهي ، أي:لا ترتابوا فيه] .
ومن القراء من يقف على قوله:( لا ريب ) ويبتدئ بقوله:( فيه هدى للمتقين ) والوقف على قوله تعالى:( لا ريب فيه ) أولى للآية التي ذكرنا ، ولأنه يصير قوله:( هدى ) صفة للقرآن ، وذلك أبلغ من كون:( فيه هدى ) .
و ( هدى ) يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعا على النعت ، ومنصوبا على الحال .
وخصت الهداية للمتقين . كما قال:( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) [ فصلت:44] . وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) [ الإسراء:82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن ؛ لأنه هو في نفسه هدى ، ولكن لا يناله إلا الأبرار ، كما قال:( ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [ يونس:57] .
وقد قال السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:( هدى للمتقين ) يعني:نورا للمتقين .
وقال الشعبي:هدى من الضلالة . وقال سعيد بن جبير:تبيان للمتقين . وكل ذلك صحيح .
وقال السدي:عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:( هدى للمتقين ) قال:هم المؤمنون .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس:( للمتقين ) أي:الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به .
وقال أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس:( للمتقين ) قال:المؤمنين الذين يتقون الشرك بي ، ويعملون بطاعتي .
وقال سفيان الثوري ، عن رجل ، عن الحسن البصري ، قوله:( للمتقين ) قال:اتقوا ما حرم الله عليهم ، وأدوا ما افترض عليهم .
وقال أبو بكر بن عياش:سألني الأعمش عن المتقين ، قال:فأجبته . فقال [ لي] سل عنها الكلبي ، فسألته فقال:الذين يجتنبون كبائر الإثم . قال:فرجعت إلى الأعمش ، فقال:نرى أنه كذلك . ولم ينكره .
وقال قتادة ( للمتقين ) هم الذين نعتهم الله بقوله:( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ) الآية والتي بعدها [ البقرة:3 ، 4] .
واختار ابن جرير:أن الآية تعم ذلك كله ، وهو كما قال .
وقد روى الترمذي وابن ماجه ، من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل ، عن عبد الله بن يزيد ، عن ربيعة بن يزيد ، وعطية بن قيس ، عن عطية السعدي ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس . ثم قال الترمذي:حسن غريب .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن عمران ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، يعني الرازي ، عن المغيرة بن مسلم ، عن ميمون أبي حمزة ، قال:كنت جالسا عند أبي وائل ، فدخل علينا رجل ، يقال له:أبو عفيف ، من أصحاب معاذ ، فقال له شقيق بن سلمة:يا أبا عفيف ، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال:بلى سمعته يقول:يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد ، فينادي مناد:أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر . قلت:من المتقون ؟ قال:قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان ، وأخلصوا لله العبادة ، فيمرون إلى الجنة .
وأصل التقوى:التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية . قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وقال الآخر:
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم
وقد قيل:إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، سأل أبي بن كعب عن التقوى ، فقال له:أما سلكت طريقا ذا شوك ؟ قال:بلى قال:فما عملت ؟ قال:شمرت واجتهدت ، قال:فذلك التقوى .
وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وأنشد أبو الدرداء يوما:
يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة ، إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله .