ذلك الكتاب لا ريب فيه:
[ ذَلِكَ الْكِتَابُ] ربما يخطر في الذهن أن من المناسب أن تُستبدل بكلمة «ذلك » كلمة «هذا » ،لأنَّ اسم الإشارة عندما يكون للقريب يُعبَّر عنه ب «هذا » ،أمّا كلمة «ذلك » فهي للبعيد ،والمفروض أن الكتاب قريب إلى قارئيه وسامعيه ؛ولكنّ اللغة العربية تتّسع للتّنزيل ،فيمكن فيها تنزيل القريب منزلة البعيد لمناسبة تقتضي ذلك لعلوّ مكانة هذا الشيء أو بعدها ،وإن كان قريب المكان ،تنزيلاً للمكانة البعيدة عن متناول الأفكار في الوصول إليها منزلة بعد المكان .
واستعملت الألف واللام في «الكتاب » للتدليل على النوع ،فذلك الكتاب يعني الكامل ،تماماً كما تقول «ذلك الرّجل » أو «ذلك البطل » وتريد الكامل في الرجولة أو البطولة ؛فكأنَّ النوع مجسّد فيه ،لاجتماع كلّ خصائص الكمال المتفرقة في الأفراد في هذا الفرد ؛فهو يمثّل النوع بكلّ صفاته وخصائصه .وعلى هذا الأساس ،فالمراد ب [ ذَلِكَ الْكِتَابُ] ،الكامل في هدايته ،الجامع لجميع الخصائص التي تجعل منه قيمة عظيمة هادية للنّاس في كلّ مجالات العصر .
[ لاَ رَيْبَ فِيهِ] أي أنه الكتاب الذي لا يحمل في آياته وفي مفاهيمه أي عنصر من العناصر التي توحي بالرَّيب أو تقود إليه ،فلا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه إذا دقق في الخصائص الموجودة فيه ،وفي المعاني الأصيلة الواضحة التي إذا تأمّلها الإنسان ،وأمعن النظر فيها ،ووعاها وعياً صحيحاً ،لما ارتاب فيها ،ولانكشفت أمامه كلّ أجواء الرّيب والشكّ والشبهة .
من هنا ،فليس معناه أنه لم يرتب فيه أحد ،لأنَّ كثيراً من النّاس أثاروا حوله جوّاً من الريبة والشك ؛فقد قالوا عنه إنه «أساطير الأولين » ،وقالوا عنه أشياء أخرى ،إمّا لغفلتهم عن طبيعته الواضحة باستغراقهم في أجواء الإثارة ،وإمّا لخضوعهم لأساليب التضليل المتنوّعة التي تنحرف بالفكر عن وجه الحقّ .
القرآن كتاب هداية:
[ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] هذه هي الصفة الثالثة من صفات الكتاب الكامل في كلّ شيء الذي لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه ،فهو [ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] .إنّه كتاب هداية ،وهذا هو دوره الأصيل ،وليس دوره أن يكون كتاباً يتحدّث عن المخترعات أو عن أي شيء آخر مما ينسب إليه ،إنما هو كتاب هدى للإنسان ليوجّهه إلى الطريق الصحيح والصراط المستقيم ..ولا مانع من أن يلتفت القرآن إلى بعض الأسرار الكونية ،والظواهر الطبيعية ،إذا دعت إليها المعالجة القرآنية لبعض المواضيع ،ولكنَّها لا تأتي على أساس مستقلّ دائماً ،بل تكتفي بالتركيز على عنصر الهداية في وسائلها وأهدافها .فليس القرآن كتاباً علمياً يجمع علوم الكيمياء والفيزياء وعلوم الحيوان والنبات وغير ذلك ،بل هو كتاب إرشاد وتوجيه وهداية للإنسان ،ليعرف كيف يسير ويصارع وينظّم حياته في كلّ المجالات .
إنّه يحدّد للإنسان الفكرة في صفاء ونقاء ،ويربطه ،من خلال ذلك ،بالمسيرة الإسلامية من بدايتها إلى نهايتها ،ويخطّط له مسيرته وحياته من خلال الأحكام الشرعية التي تعرّفه كيف يتحرّك ،من موقع المسؤولية ،في هدوء واطمئنان ،حركةً تعرف نفسها جيداً ،لأنها تعيش الوضوح في الرؤية ،والانسجام مع الهدف .
ولعلّ القيمة الكبيرة للّهدى القرآني هي أنه لا يتجمّد عند حدود الذات ليملأها بالإشراق والصفاء ،وتقف الهداية في الداخل فلا تتجاوزه إلى خارج نطاق الذات في حياة الآخرين ،بل هو الهُدى الممتدّ من القلب إلى الحياة ،كمثل الينبوع المتدفّق الذي ينطلق ويتفجّر ليفيض ويتدفق على الأرض الرحبة الفسيحة ليمنحها الخصب والحياة .
الطابع الفريد للهدى القرآني:
أمّا طابع الهُدى القرآني فهو فريد من نوعه ،لأنه لا يقف في منطقة الفكر ليشير إلى العقل أن يتفلسف ويحلّل ،ويبدع الفكر من موقع الفلسفة والتحليل ،ولكنَّه يتحرّك في أبعاد النفس الإنسانية ليثير فيها الفكر الممزوج بالعاطفة ،والعقل المتحرّك بالوجدان ،والروحية المتّصلة بالواقعية ،فليس هناك جفاف فكري تشعر معه بأنك تعيش ضمن قوالب جاهزة جامدة تقدّم إليك من خارج ذاتك ،بل هناك الحيويّة النابضة بالروح التي تنساب في مشاعرك وعواطفك وفكرك ووجدانك ،فتشعر معها بأنك تمارس فكرك من موقع النور المتفجّر من أعماقك في رحاب اللّه ،ما يجعل من قضية الفكر شيئاً يشبه العبادة ويصنع الحياة .
المتقون هم المنفتحون على الحقّ:
أمّا «المتّقون » ،فهم أولئك الذين انفتحت عقولهم على فكر الحقّ من خلال التأمّل والمعاناة الوجدانية ،حتى عاش في وجدانهم قناعة واطمئناناً ،واندمجت أرواحهم في لقاء اللّه ،حتى شعروا بحضوره معهم في يقظتهم ومنامهم ،فلا يواجهون شيئاً في الحياة إلاَّ ويواجهون اللّه معه ،باعتبار أنَّ الأشياء تفقد استقلالها وذاتيتها في داخلهم ،لأنها المظهر الحي لوجود اللّه وقدرته وحكمته ورحمته .وهم الذين تحرّكت حياتهم في الصراط المستقيم حتى لتحسّ بخطواتهم تتنقل في ثبات واتزان ،كأنها تعيش وعي الطريق في كلّ أبعاده واتجاهاته ،فلا تغيب عنها أية انعطافة من منعطفات الطريق التي تدعو للانحراف ،بل هي الاستقامة الباحثة أبداً عن النور في طريق اللّه .
هل القرآن هدى للمتقين فقط ؟
وهنا يواجهنا سؤال مثير ،كيف يكون القرآن هُدًى للمتقين ولا يكون هُدىً لكلّ النّاس ؟وهل يحتاج المتقون الذين يعيشون الهُدى في كيانهم إلى هداية ليكون القرآن هادياً لهم ؟
والجواب: هو أنَّ المتّقين هم الذين يشعرون بمسؤوليتهم الفكرية والاجتماعية تجاه العقيدة والحياة ،فهم الذين يعيشون تقوى الفكر التي توحي بالتأمّل والتفكير العميق ،فيطلبون الهداية من موقع المواجهة الحادة للمشاكل الصعبة التي تعترضهم في قضايا الصراع ،فيقفون أمامها موقف الجادّ الذي لا يعيش حالة اللامبالاة والاسترخاء الفكري ،بل يحاول أن يدخل عملية الصدام الفكري ليفكّر في ما يُعرض عليه ليناقشه ،فإمّا أن يقتنع به وإمّا أن يرفضه على أساسٍ من الوعي ،ثُمَّ إن المتّقين هم الذين يخافون اللّه ويحبونه بإخلاص وإيمان ،فيشعرون من خلال ذلك بالمسؤولية التي تتحول إلى مراقبة ومحاسبة في الفكر والعمل ،فيندفعون في عملية ملاحقةٍ للأسس التي يرتكز عليها الهدى من أجل أن تكون موضع تفكير ومناقشة .
أمّا الآخرون من غير المتّقين ،فهم الذين لا يشعرون بالمسؤولية تجاه أنفسهم ،وتجاه ربهم ،بل وتجاه الحياة كلّها .إنهم يواجهون الحياة مواجهة اللامبالاة والهروب من كلّ شيء يتعب الفكر والوجدان ،فلا يحاولون أن يهتدوا ،ولا يريدون أن يفكروا بالهدى ،فلا يمكن للكتاب أن يكون هدى لهم ،لأنَّ الهدى لا بُدَّ له من عقل مفتوح ووجدان سليم ،ولكنَّه يظلّ يطرق أسماعهم منتظراً حالة الوعي الجديدة التي تربطهم بالإرادة الواعية ليهديهم من موقع إرادتهم للهداية ،في آفاق اللّه الرحبة الممتدة بالإيمان .