بعد البسملة وذكر الآية الأولى من سورة البقرة يقول تعالى: ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) .قد يشير هذا التعبير إلى أن الله تعالى وعد نبيّه أن ينزّل عليه كتاباً يهتدي به من طلب الحق ،ولا يشك فيه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو بصير ،وها هو سبحانه قد وفى بوعده الآن .
وقوله: ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) ليس ادعاءً ،بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة ،هي إنّ القرآن يشهد بذاته على حقّانيته .وبعبارة أخرى فإن مظاهر الصدق والعظمة والإنسجام والإستحكام وعمق المعاني وحلاوة الألفاظ والعبارات وفصاحتها من الوضوح بدرجة تبعد عنه كلّ شك .
من المشهود أن مرّ العصور وكرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن ،بل إن حقائق القرآن ،ازدادت وضوحاً بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات .وكلما ازداد العلم تكاملا ازدادت آيات القرآن جلاء وسطوعاً .
وسنوضح هذه الحقيقة أكثر بإذن الله في مواضع أخرى من هذا التّفسير .
1لماذا الإشارة إلى البعيد ؟
نعلم أن كلمة ( ذلك ) إشارة إلى البعيد في لغة العرب .وقرب القرآن من أيدي النّاس يقتضي أن تكون الإشارة للقريب .
السبب في استعمال اسم الإشارة للبعيد يعود إلى بيان سموّ القرآن ورفعته ،حتى كأنهفي عظمتهيحتل نقطة الذروة في هذا الوجود .ومثل هذا الاستعمال شائع في سائر اللغات أيضاً حين يراد الإشارة إلى شخص ذي منزلة كبيرة مثلا .
في بعض مواضع القرآن وردت أيضاً كلمة ( تلك ) ،وهي اسم إشارة للبعيد أيضاً ،مثل: ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ )( لقمان ،2 ) .والسبب فيه ما ذكرنا .
2معنى الكتاب:
«الكِتَابُ » يعني المكتوب والمخطوط ،ولا شك أن المراد منه في الآية كتاب الله الكريم .
وهنا يثار سؤال حول سبب استعمال كلمة الكتاب للقرآن وهو آنئذ لم يكتب كلّه .
وفي الجواب نقول: استعمال هذه الكلمة لا يستلزم أن يكون القرآن كله مكتوباً .لأن اسم القرآن يطلق على كل هذا الكتاب ،وعلى أجزائه أيضاً .
أضف إلى ذلك أن «الكتاب » يطلق أحياناً بمعنى أوسع ،ليشمل كل ما يليق أن يكتب فيما بعد ،وإن لم يكن كذلك حين إطلاق اسم الكتاب عليه .ففي آية أخرى نقرأ: ( كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ )( ص 29 ) .ومن المؤكد أن القرآن لم يكن بشكل كتاب مدوّن بين النّاس قبل نزوله .
وثمة احتمال آخر وهو إن التعبير بالكتاب يشير إلى كتابة القرآن في «اللوح المحفوظ »{[77]} .
3ما هي الهداية ؟
كلمة ( الهداية ) لها عدة معاني في القرآن الكريم ،وكلها تعود أساساً إلى معنيين:
1الهداية التكوينية: وهي قيادة رب العالمين لموجودات الكون ،وتتجلى هذه الهداية في نظام الخليقة والقوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود .وواضح أن هذه الهداية تشمل كل موجودات الكون .
يقول القرآن على لسان موسى( عليه السلام ): ( رَبُّنَا الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )( طه ،50 ) .
2الهداية التشريعية: وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والكتب السماوية ،وعن طريقها يرتفع الإنسان في مدارج الكمال ،وشواهدها في القرآن كثيرة منها قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا )( الأنبياء ،73 ) .
4لماذا اختصت هداية القرآن بالمتقين ؟
واضح أن القرآن هداية للبشرية جمعاء ،فلماذا خصت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية ؟
السبب هو أن الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء ،مالم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى ( مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة ) .
وبعبارة أخرى: الأفراد الفاقدون للإِيمان على قسمين:
قسم يبحث عن الحق ،ويحمل مقداراً من التقوى يدفعه لأن يقبل الحق أنّى وجده .
وقسم لجوج متعصب قد استفحلت فيه الأهواء ،لا يبحث عن الحق ،بل يسعى في إطفاء نوره حيثما وجده .
ومن المسلم به أن أفراد القسم الأول هم الذين يستفيدون من القرآن أو أيّ كتاب سماوي آخر ،أما القسم الثاني فلا حظّ لهم في ذلك .
وبعبارة ثالثة: كما إنّ «فاعليّة الفاعل » شرط في الهداية التكوينية وفي الهداية التشريعية ،كذلك «قابلية القابل » شرط فيهما أيضاً .
الأرض السبخَةُ لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات ،فقابلية الأرض شرط في استثمار ماء المطر .
وساحة الوجود الإنساني لا تتقبّل بذر الهداية ما لم يتمّ تطهيرها من اللجاج والتعصب والعناد .ولذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنه: ( هُدىً لِلْمُتَقِينَ ) .