قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (الذين اسم موصول في محل حجر نعت (للمتقين (التي قبلها ،وقيل: في محل نصب على المفعولية لفعل محذوف تقديره أمدح .
وقوله: (يؤمنون (من الإيمان ومعناه في اللغة: التصديق ،والإيمان في الشرع: كلمة جامعة للإقرار بالله وملائكته ،وكتبه ورسله واليوم الآخر ،وتصديق هذا الإقرار بالفعل ،وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل ،قال ابن كثير في هذا الصدد: الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا .
وهو قول أكثر العلماء ،وعلى هذا فإن الإيمان إقرار بأركان العقيدة المعروفة واقتران ذلك بالعمل الصحيح المشروع ،فلا اعتبار للإقرار أو التصديق المجرد والذي لا يشفعه عمل .
ومن ركائز الإيمان للمؤمنين تصديقهم عن يقين بالغيب المستور مما هو خلف الطبيعة ووراء الشهادة والحس في ظواهر لا يقف عليها الإنسان في تركيبته البشرية ،وهي تركيبة يطلبها واقع الحياة في دنيا محدودة ،لا تقوى على إدراك ما وراء الطبيعة المشهودة من عوالم الغيبات كالملائكة والكتب المنزلة والرسل واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والنشور والحساب ،وكذلك الله تعالت أسماؤه إنما يؤمن به المؤمنون بالغيب لأن الله( ليس كمثله شيء(وهو سبحانه( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ( فإنه سبحانه لا يدركه المرء من باب الحس المشهود كالبصر أو السمع أو غير ذلك من أسباب حسية ثقيلة .
وثمة معنى آخر مثير يتفجر من خلال النص القرآني الكريم وهو يصف المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ،فإن في ذلك ما يشير بوضوح مكشوف إلى تكريم المتقين ،لأنهم يؤمنون بالغيب والإيمان بالغيب ضرب من الرقي المكرم الذي يرتقي من خلاله المؤمن ليكون في صف الأبرار والأطهار من البشر ،ولا غرو فإن الإيمان بالغيب يرتفع بالمؤمن ليكون في عداد الغلاة الذين يتسامون على التصور المادي الممحص ،التصور المادي المتبلد الثقيل الذي يودي بالإنسان إلى حمأة الهبوط المنحدر والارتكاس المتدهور .
وقوله: ( ويقيمون الصلاة (إقامة الصلاة ترد بإطلاق لتشمل ما فيها من ركوع وسجود وقراءة وخشوع وقيام وقعود ،وما يشترط لها من طهارة وستر للعورة واستقبال للقبلة وغير ذلك من وجوه إتمام الصلاة ،وللمحافظة عليها وأدائها على أتم نحو وأوفى صورة .
والصلاة في اللغة تأتي على عدة معان منها: الدعاء والرحمة والعبادة والنافلة والتسبيح ثم القراءة ،وقيل غير ذلك مما يتناول مفهوم الصلاة في لغة العرب ،ولا جرم أن تكون مثل هذه المعاني جميعها وثيقة الصلة بالمفهوم الشرعي لكلمة الصلاة والصلاة في مفهومها الشرعي تتضمن جملة حركات وأقوال وقراءات يؤديها المصلي على سبيل التعبد والطاعة لله ،أما تفصيل الصلاة في بيان موضح مستفيض فليس هنا موضع ذلك بل موضعه مظانه في كتب الفقه بما يعرض لفريضة الصلاة بالشرح المبسط التفصيلي .
وقوله: ( ومما رزقناهم ينفقون( الرزق: معناه العطاء ،وهو يشمل كل وجوه الخير من المال والطعام والكساء وغير ذلك ،أما قوله ( ينفقون(فهو من الفعل نفق ومعناه: نفد وفني ،ويأتي بمعنى خرج ،فالإنفاق الواقع على المال يعني إخراجه من اليد ،وبذلك فإن النفقة أو الإنفاق هو إخراج المال من اليد على وجوهه المختلفة أو إفناؤه في سبيل الخير .
واختلف العلماء في المقصود بالنفقة هنا ،فقد قيل: يقصد بها الزكاة المقروضة ،وقيل: بل هي صدقة التطوع غير المقروضة ،وفي قول آخر بأن المقصود ما أنفقه المرء على أهله وعياله أو من وجبت نفقتهم عليه ،والقول الذي نرجحه ونطمئن إليه ،أن النفقة عامة تتناول كل وجوه الإنفاق من فريضة وتطوع ،وما كان لأهل أو عيال أو غيرهم .{[18]}