نموذج آخر ...الكافرون:
هذا هو النموذج الثاني من النماذج البشرية التي تتنوّع مواقفها أمام قضية الكفر والإيمان ،وهو نموذج الكافرين .
والظاهر أنَّ الآية لا تتعرّض لهذا النموذج في طبيعته الشاملة ،بل تتعرّض له من خلال الفئة التي واجهت الدعوة الإسلامية في بداياتها ،فلم تفتح قلوبها للإسلام لتفكر فيه وتناقشه ،لتتبعه عن قناعة ،أو لترفضه عن دليل ،وإنما وقفت موقف المعاند الذي يصرّ على موقفه ،ولا يسمح لنفسه أو للآخرين بأية تجربة فكرية أو عملية للحوار حول خطأ الموقف أو صوابه .
إنَّ هذه الفئة هي التي لا ينفع معها الترغيب ولا الترهيب ،ويستوي في حالتها الإنذار وعدمه ،لأنها غير مستعدة لسماع آيات اللّه ،وللتفكير في ما تدعو إليه ،وغير مستعدة لاستعمال أبصارها في ما يحيط بها من دلائل عظمة اللّه سبحانه في الكون العظيم ،لتحصل ،من ذلك ،على وسائل القناعة والإيمان .
ولعلّ من الطبيعي أن تكون التجربة المستمرة في الدعوة منطلقةً في حياة أولئك الذين يشعرون بمسؤوليتهم تجاه أنفسهم وتجاه ربّهم في قضية الإيمان والكفر ،على أساس أنها تمثّل قضية المصير في الدنيا والآخرة ،ما يدفعهم إلى مزيد من التفكير والاهتمام ،بينما النموذج الذي تشير إليه الآية تبدو دعوته نوعاً من الجهد الضائع ،لأنَّ أفراده هم الذين لا يسمحون للعيون بأن تحدّق في الكون ،وللأسماع بأن تستلهم قضايا الفكر والإيمان ،وللقلوب بأن تفكر وتحاكم وتناقش ،وبالتالي أقفلت كلّ منافذ الإيمان والوعي .
ونحن نعلم أنَّ النبيّ ( ص ) جرّب هداية هذه الفئة أكثر من مرّة بمختلف الوسائل والأساليب ،ولم يتراجع عن تجربته أمام حالات الكفران والجحود والضغط النفسي والمعنوي الذي وجّهوه إليه ،انطلاقاً من القاعدة الإسلامية الأساسية التي تحكم عمل الدعوة ،في سلوك كلّ الطرق الممكنة للوصول إلى عقل الإنسان وتفكيره وشعوره للحصول على قناعته الإيمانية .
ولكنَّ القضية أصبحت تمثّل جهداً ضائعاً لا يصل إلى أية نتيجة ملموسة ،لأنَّ القوم قد حدّدوا موقفهم على أساس العناد والمكابرة ،لا على أساس الفكر والإيمان ،ولذلك جاءت هذه الآية لتحدّد للرسول الموقف الحاسم من هؤلاء ،ولتدعوه إلى عدم مواصلة التجربة التي أثبتت عقمها ،لينطلق بجهوده إلى مجال آخر ،تنفتح فيه الدعوة على جماعة آخرين يفتحون قلوبهم للإيمان ،وعيونهم للصراط المستقيم ،وأسماعهم للكلمات النافعة .
وقد جاءت الآية الثانية لتؤكد الفكرة بشكل ملموس ،فقد ختم اللّه على قلوبهم ،فهي مغلقة النوافذ من جميع الجهات ،وختم اللّه على أسماعهم حتى سدّت منافذها عن كلّ كلمة ،وأما أبصارهم فتعلوها الغشاوة التي تحجب عنها الرؤية .وبذلك حكموا على مصيرهم بالعذاب الأليم في الآخرة .
الآيتان في حركة الواقع المعاصر:
ويواجهنا في هذا المجال جانبان لا بُدَّ من الحديث عنهما عند استيحاء هاتين الآيتين الكريمتين:
الجانب الأول: ما هي المجالات التي تتحرّك فيها الآيتان الكريمتان في حياتنا المعاصرة ،أو بالأحرى كيف يواجه المسلم ،الذي يريد أن يدعو إلى اللّه ،الفئات الكافرة التي تتحدّاه ؟
إننا نعتقد أنَّ واقع الكفر والانحراف اليوم ،لا يختلف عن الواقع بالأمس من حيث طبيعة النماذج العامة لجماعات الكفر ؛فهناك نموذجٌ يعيش حالة القلق النفسي ،والتطلّع الروحي للمعرفة التي تدفعه إلى الموقف الثابت المطمئن في قضية الكفر والإيمان ،لكنَّ الأخطاء الفكرية ،والانحرافات العقيدية ،تحوّل الكفر إلى قناعة ذاتية تحت عنوان «العلم » أو «العقل » ،أو نحو ذلك ،في غفلة عن العناصر الأخرى في فكر الإيمان التي يمكن أن تفتح للعقل آفاقاً جديدة تطلّ على معرفة اللّه ؛وهؤلاء هم الكافرون الغافلون الذين يطّلعون على مواقع المعرفة من زاوية واحدة .
وهناك نموذج يعيش حالة العناد والمكابرة والإصرار على الانحراف انطلاقاً من التركيب الداخلي الذي يحكم وجوده .فهو يواجه الحياة بعقلية المصالح والأطماع والشهوات الذاتية ،بحيث تكون هي التي تحدّد له خطوط سيره الملتوية أو المستقيمة ،بعيداً عن مسؤوليته تجاه ربّه ونفسه وحياته .
وهناك نموذج آخر يُخضع أفكاره لمزاجه ولعاطفته ،فيحدّد طريقه على أساس ما يدفعه إليه مزاجه ،أو توحي به عاطفته من قضايا الحياة ،وعلى ضوء ذلك ،يحكم على قضايا الكفر والإيمان ،من دون أن يسمح بالمناقشة فيها مباشرة ،ما يجعله ينظر إليها فرعاً من أصل ،لا أصلاً لفرع كما هو الواقع .وهذا النموذج يتمثّل في الفئات التي تنطلق في حركتها من خلال القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الشهوانية ..فتتبنى المواقف العقائدية التي تكمن وراء التيارات التي تدفع الحياة في اتجاه معالجة هذه القضايا العامة والخاصة .
وفي هذا الاتجاه ،لا بُدَّ للإنسان المسلم من دراسة المجتمعات التي تحيط به دراسة واعية ،يحدّد فيها نوعية الأفراد الذين يعيشون فيها في إطار ما حدّدناه من نماذج ،ليتخذ الموقف القرآني الذي يعتبر الحوار جهداً ضائعاً مع الفئات التي تنطلق من موقف العناد في مواقعها الفكرية والعملية ،أو الفئات التي ليست مستعدة لفتح حوار مباشر في قضايا العقيدة من خلال الفكر ،بل من خلال قضايا الحياة .وبذلك ،يفتش عن وسيلة أخرى يحطّم فيها الحاجز النفسي الذي وضعوه بينهم وبين الإيمان ،لينفذ بعد ذلك من جديد إلى قضية الحوار ،بعد إزالة كلّ الحواجز التي تقف بين الإنسان وبين التفكير .