ذكر الله عز وجل أعلى صنف في الوجود الإنساني ، وهم الذين علوا بنفوسهم وأعمالهم ، وذكر في مقابلهم الذين أركسوا أنفسهم في مهاوي الباطل حتى سدت عليهم كل مسالك الإدراك للحق ، ثم ذكر من بعدهم الحائرين بين الهداية والضلالة ، يرون نور الحق ويبصرونه ، ثم يتركونه ، فيتركون الحق وقد بدت لديهم معالمه ، ويتجهون في الظلام ، وقد أشرق نوره ، ولمعت في الوجود شمسه ، أولئك هم المنافقون .
وقد روي عن مجاهد أنه قال:أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين{[44]} .
وقد تم بيان صفات المتقين ، ونبتدئ في آيتي الكافرين ، فقد قال:{ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} .
بين سبحانه الذين يتقبلون هداية القرآن ، فينزل على قلوبهم كما ينزل الغيث على الأرض الطيبة ، فتنبت أطيب النبات ، وتثمر خير الثمر . وهم المتقون الذي جرى في القرآن الكريم في الآيات السابقة وصفهم . والكافرون جاء وصفهم في الآيات الكريمة على نقيض المتقين ، إذ إن هؤلاء المتقين امتلأت نفوسهم بالاتجاه إلى ما وراء المادة ، فلم يستول على قلوبهم بريق المادة ، ولم يستغرقهم سلطانها ، بل انفعلت نفوسهم متأثرة بما وراءها متعرفة أسرار الوجود من الموجود ، أما الذين كفروا فقد استغرقتهم المادة ، وسيطرت عليهم ، فلا يفكرون إلا فيها ، وفيما تحيط به ، والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس ، وهداها ، فإن استقامت في إدراك الحقائق أوصلها إلى الحق ، وإن عميت واعوجت ابتداء ، فلم تر إلا المادة سارت في طريق غير سوي . والله سبحانه وتعالى يقول:{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة . . . ( 78 )}[ النحل] . فالله تعالى خلق الخلق ، وأودع كل نفس طريق العلم ، فأعطاه أدوات المعرفة كلها ، وجعل السمع يستمعون به والأبصار يبصرون بها ، والقلوب يدركون بها ، فمن جعل هذه الأدوات متجهة إلى النور فقد أبصر ، فيكون من المتقين ، ومن أحاطت به مادة الدنيا ، ولم ينفذ ببصره وقلبه إلى ما وراءها ، فإنه لا بد سائر في طريق الغواية ، مبتعد عن طريق الهداية ، وكل إنسان وما يسر له ، فإن غلبت عليه السعادة اتقى ، وإن غلبت عليه الشقوة كفر .
والكفر في أصل معناه اللغوي الستر ، ومن ذلك إطلاق الكفار على الزراع لأنهم يسترون البذر لينبت نباتا طيبا كقوله تعالى:{ كمثل غيث أعجب الكفار نباته . . . ( 20 )}[ الحديد] ، أي أعجب الزراع نباته ، وقد أطلق من بعد ذلك على ستر الفطرة وطمس الحق ؛ لأن الفطرة الإنسانية فطرة الله ؛ فطر الناس عليها تتجه إلى الحق ، وتدرك نوره ، فالكفر ستر نور الفطرة الذي ينبثق نحو الحقيقة ، كما يطلق الكفر على جحود النعمة ، وإنكارها ومن ذلك قوله تعالى:{ لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( 7 )}[ إبراهيم] .
ومن ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال:( أريت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء ، قيل:بما يا رسول الله ؟ قال:بكفرهن . قيل:أيكفرن بالله ؟ قال:يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إليهن الدهر كله ، ثم رأت منك شيئا ، قالت:ما رأيت منك خيرا قط ){[45]} . وذكر الله تعالى الكفر من غير متعلق فقال:{ إن الذين كفروا} للدلالة على جحود كل خير ، فلا يكفر الكفار بالله تعالى وحده ، بل يكفرون بكل نعمة ، وينكرون كل خير ، وتغلب عليهم مادية شرسة لا يؤمنون إلا بها وينكرون ما عداها ، وتسد عنهم مسامع الخير ، فلا يصلون إليه ، ولا يتجهون نحوه ، وبذلك تسد مسامعهم عن كل إنذار بعاقبة ما يفعلون .
وإذا كانوا قد فقدوا كل الإنصات إلى ما يهديهم ، فهم لا يؤمنون سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، والإنذار يفسره علماء اللغة بأنه تخويف من أمر مستقبل يتوقع وقوعه أو يؤكد وقوعه ، وعند المنذر سعة من الوقت يمكنه فيه أن يتوقاه ، وقالوا:إذا لم يكن متسع من الوقت لتفاديه يكون ذلك إشعارا .
ومعنى{ سواء عليهم أأنذرتهم} ، أنه يستوي عندهم إنذارك وعدم إنذارك ، فالاستفهام هنا للمعادلة ، أي أنه يستوي الإنذار وعدمه ، والمصدر هنا ثبت بالاستفهام ، أو من غير أداة مصدر كقولك:تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي:سماعك بالمعيدي خير من أن تراه .
ومعنى ذلك أنه سجل عليهم الكفر والجحود ؛ لأن الشر قد استغرق أنفسهم ، ولم يكن ثمة موضع لسماع داعي الهدى حتى أغلق قلبه عن كل ما يدعو إلى الخير ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:( إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء ، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه ){[46]} . وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إن الرجل ليقترف الذنب فيسود قلبه ) ، فإن هو تاب صقل قلبه{[47]} ، وقال تعالى:{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( 14 )} [ المطففين] أولئك الذين كفروا وستروا الفطرة ، وأطفأوا نور الإيمان بتوالي ذنوبهم ، واستمراء جحودهم ، تحيط بهم خطاياهم فلا يؤمنون بالحق سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم .
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى ب "إن"الدالة على توكيد حكم ما بعدها .