{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ( البقرة:87 ) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} ( البقرة:88 ) .
التفسير:
قوله تعالى:{ولقد}: اللام موطئة للقسم ؛و"قد "للتحقيق ؛وعليه فتكون هذه الجملة مؤكّدة بثلاثة مؤكّدات .وهي: القسم المقدَّر ،واللام الموطئة للقسم ،و"قد "؛و{آتينا} أي أعطينا ؛و{موسى} هو ابن عمران أفضل أنبياء بني إسرائيل ؛و{الكتاب}: المراد به هنا التوراة ..
قوله تعالى:{وقفينا من بعده بالرسل} أي أتبعنا من بعده بالرسل ؛لأن التابع يأتي في قفا المتبوع ..
قوله تعالى:{وآتينا عيسى ابن مريم} أي أعطيناه{البينات}: صفة لموصوف محذوف ؛والتقدير: الآية البينات .أي الظاهرات في الدلالة على صدقه ،وصحة رسالته ؛وهذه الآية البينات تشمل الآية الشرعية ،كالشريعة التي جاء بها ؛والآية القدرية الكونية ،كإحياء الموتى ،وإخراجهم من قبورهم بإذن الله ..
قوله تعالى:{وأيدناه} أي قويناه ،كقوله تعالى:{فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [ الصف: 14] أي قويناهم عليهم ؛وهو معروف اشتقاقه ؛لأنه من"الأيد "بمعنى القوة ،كما قال الله تعالى:{والسماء بنيناها بأيد} [ الذاريات: 47] أي بقوة ..
قوله تعالى:{بروح القدس} من باب إضافة الموصوف إلى صفته .أي بالروح المقدس ؛و "القُدُس "،و "القُدْس "بمعنى الطاهر ؛واختلف المفسرون في المراد ب"روح القدس ": .
القول الأول: أن المراد روح عيسى ؛لأنها روح قدسية طاهرة ؛فيكون معنى:{أيدناه بروح القدس} أي أيدناه بروح طيبة طاهرة تريد الخير ،ولا تريد الشر ..
والقول الثاني: أن المراد ب"روح القدس ": الإنجيل ؛لأن الإنجيل وحي ؛والوحي يسمى روحاً ،كما قال الله تعالى:{وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [ الشورى: 52] ..
و القول الثالث: أن المراد ب"روح القدس "جبريل .عليه الصلاة والسلام .كما قال تعالى:{قل نزله روح القدس من ربك} [ النحل: 102]: وهو جبريل ؛وقال النبيصلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت وهو يهجو المشركين:"اللهم أيده بروح القدس "{[120]} أي جبريل ؛وهذا أصح الأقوال .وهو أن المراد ب"روح القدس ": جبريل .عليه الصلاة والسلام .يكون قريناً له يؤيده ،ويقويه ،ويلقنه الحجة على أعدائه ؛وهذا الذي رجحناه هو الذي رجحه ابن جرير ،وابن كثير .أن المراد ب"روح القدس ": جبريل عليه الصلاة والسلام ..
قوله تعالى:{أفكلما}: الهمزة للاستفهام الإنكاري ،والتوبيخ ؛والفاء عاطفة ؛و"كلما "أداة شرط تفيد التكرار ؛ولا بد فيها من شرط ،وجواب ؛والشرط هنا: قوله تعالى:{جاءكم}؛والجواب:{استكبرتم} ..
وقوله تعالى:{أفكلما جاءكم رسول} أي من الله ؛{بما} أي بشرع ؛{لا تهوى أنفسكم} أي لا تريد ؛{استكبرتم} أي سلكتم طريق الكبرياء ،والعلوّ على ما جاءت به الرسل ؛{ففريقاً} أي طائفة ؛ونصب على أنه مفعول مقدم ل{كذبتم}؛{وفريقاً تقتلون} أي وطائفة أخرى تقتلونهم ؛وقدم المفعول على عامله ؛لإفادة الحصر مع مراعاة رؤوس الآي ؛والحصر هنا في أحد شيئين لا ثالث لهما: إما التكذيب ؛وإما القتل .يعني مع التكذيب ..
وهنا قال تعالى:{كذبتم} .فعل ماضٍ ؛وقال تعالى:{تقتلون} .فعل مضارع ؛فأما كون الأول فعلاً ماضياً فالأمر فيه ظاهر ؛لأنه وقع منهم التكذيب ؛وأما الإتيان بفعل مضارع بالنسبة للقتل فهو أولاً مراعاة لفواصل الآية ؛لأنه لو قال:"فريقاً قتلتم "لم تتناسب مع التي قبلها ،والتي بعدها ؛ثم إن بعض العلماء أبدى فيها نكتة: وهي أن هؤلاء اليهود استمر قتلهم الرسل حتى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم قتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالسم الذي وضعوه له في خيبر ؛فإنه صلى الله عليه وسلم ما زال يتأثر منه حتى إنه صلى الله عليه وسلم في مرض موته قال:"ما زالت أكلة خيبر تعاودني ،وهذا أوان انقطاع الأبهر مني "{[121]}؛قال الزهري: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً ؛لأن اليهود تسببوا في قتله ؛وهذا ليس ببعيد أن يكون هذا من أسرار التعبير بالمضارع في القتل ؛وإن كان قد يَرِدُ عليه أن التكذيب استمر حتى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فلماذا لم يقل:"فريقاً تكذبون وفريقاً تقتلون "؟!والجواب عن هذا أن القتل أشد من التكذيب ؛فعبر عنه بالمضارع المستمر إلى آخر الرسل ..
فإن قيل: كيف يصح قول الزهري: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً ؛لأن اليهود كانوا سبباً في قتله ،وقد قال الله تعالى:{والله يعصمك من الناس} ؟
فالجواب: المراد بقوله تعالى:{يعصمك من الناس}: حال التبليغ ؛أي بلغ وأنت في حال تبليغك معصوم ،ولهذا لم يعتد عليه أحد أبداً في حال تبليغه ،فقتله ..
/خ88