{ ( 87 ) ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس .أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ( 88 ) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون} .
عهد في سيرة البشر أن الأمة توعظ وتنذر ، فتتعظ وتتدبر ، فإذا طال عليها الأمد بعد النذير تقسو القلوب ، ويذهب أثر الموعظة من الصدور ، وتفسق عن أمر ربها ، وتنسى ما لم تعمل به مما أنذرت به ، أو تحرفه عن موضعه بضروب التأويل ، وزخرف القال والقيل ، ولقد يكون للمتأخر منها بعض العذر لجهله بما فعل المتقدم وأخذه ما يؤثر عنه بالتسليم لكمال الثقة وحسن الظن .
بين الله تعالى هذه السنة الاجتماعية في سورة الحديد بقوله{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} ولهذا كان تعالى يرسل الرسل بعضهم في إثر بعض حتى لا يطول أمد الإنذار على الناس فيفسقوا ويضلوا .ولا يعرف التاريخ شعبا جاءت فيه الرسل تترى كشعب إسرائيل ، لذلك كانوا بمعزل عن صحة العذر بطول الأمد على الإنذار .وفي ناحية ما يرجى قبوله من التعلل والاعتذار ، لهذا قال تعالى بعد كل ما تقدم{ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} فلم يمر زمن بين موسى وعيسى آخر أنبيائهم إلا وكان فيه نبي مرسل أو أنبياء متعددون يأمرون وينهون كأنه يقول اعلموا يا بني إسرائيل أنه إن كان لطول الأمد على النبوة وبعد العهد بالرسل يد في تغيير الأوضاع ونسيان الشرائع ، وكان في ذلك وجه لاعتذار بعض المتأخرين ، فإن ذلك لا يتناولكم ، فإن الرسل قد جاءتكم تترى ثم كان من أمركم معهم ما كان .
ذكر رسل بني إسرائيل بالإجمال لبيان ما ذكر ، ثم خص بالذكر المسيح عليه السلام فقال{ وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} فأما البينات فهي ما يتبين به الحق من الحجج القيمة والآيات الباهرة .وقال الأستاذ الإمام:المراد بها ما دعا إليه من أحكام التوراة .وأما روح القدس فهو روح الوحي الذي يؤيد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم ؛ وهو هو المراد بقوله تعالى{ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} الآية .
ويطلق عليه روح القدس لأن التعليم الذي يكون به مقدس أو لأنه يقدس النفوس كما يطلق عليه"الروح الأمين "لأن النبي الموحى إليه يكون على بينة من ربه فيه يأمن معها التلبيس فيما يلقى إليه ، قال تعالى في القرآن{ نزل 26:193 ، 194 به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين} .
( ثم قال الأستاذ ):ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بروح القدس الملك المسمى بجبريل الذي ينزل على الأنبياء ، ومنه يستمدون الشرائع عن الله تعالى وهو على حد قولهم"حاتم الجود "وذكر بعضهم وجها آخر وهو أن المراد بها روح عيسى نفسه ، ووصفها بالقداسة والطهارة بمعنى إعاذته من الشيطان أن يكون له حظ فيه ، أو لأنه أنزل عليه الإنجيل بالتعاليم التي تقدس النفوس ، بل قال بعضهم:إن روح القدس هو الإنجيل ، والمراد من الكل واحد ، وهو أن الله تعالى أرسل إليهم عيسى بعد ظهور رسل كثيرين فيهم بعد موسى وأعطاه ما لم يعط كل رسول من أولئك الرسل من الوحي أو من قوة الروح ، وزكاء النفس ومكارم الأخلاق ، ونسخ بعض الأحكام ، وقد كان حظه مع ذلك منهم كحظ سابقيه الذين لم يؤتوا من المواهب مثل ما أوتي .
ماذا كان أولئك الرسل من بني إسرائيل ؟ كان حظهم منهم ما أفاده الاستفهام التوبيخي في قوله{ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} فاتبعتم الهوى وأطعتم الشهوات ، وعصيتم الرسل واحتميتم عليهم أن أنذروكم ودعوكم إلى أحكام كتابكم{ ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} كان المعهود في التخاطب وكلام الناس أن تذكر هذه المساوئ ثم يوبخون عليها ، ولكن طواها في الخطاب وأدمجها في الاستفهام لتفاجئ النفوس بقوة التشنيع والتقبيح ، وتبرز لها في ثوب الإنكار والتوبيخ ، وفي ذلك الإيماء إلى أن هذه المعاملة السوءى مما لا يخفى خبرها ، ولا تغيب عن الإنكار صورها ، فلا ينبغي الإلماع إليها ، إلا في سياق تقريع مجترحيها ، وهذا من إيجاز القرآن ، الذي لا يعرج إليه فكر الإنسان ، وانظر كيف أورد خبر القتل بصيغة المضارع التي تدل على الحال لاستحضار تلك الصورة الفظيعة وتمثيلها للسامع حتى يمثلها في الخيال ، وإن مرت عليها القرون والأحوال لأنها أفاعيل لا تخلق جدتها ، ودماء لا تطير رغوتها ، وإن مثل هذا التعبير ليمثل تلك الصور المشوهة أن الألفاظ إذا قرعت الذهن بمفهومها يتناول الخيال ذلك المفهوم ويصوره بالصورة اللائقة به ، فيكون له من التأثير ما يناسبه .
قتلوا من الأنبياء المرسلين زكريا ويحيى عليهما السلام ، ويروى أنهم قتلوا في يوم واحد مائة وخمسين نبيا ، فإن صح هذا فالمراد بأولئك الأنبياء من كانت نبوتهم محصورة في الدعوة إلى إقامة التوراة ، ودليلها محصورا في الإنباء ببعض المغيبات وكان هذا الفريق منتشرا في أسباط بني إسرائيل وكثيرا بكثرتهم .
وفي هذه الآية حجتان للنبي صلى الله عليه وسلم – حجة على بني إسرائيل وحجة على الذين يعجبون لعدم إيمانهم به وإجابتهم دعوته ، وبيان أن المجاحدة والمعاندة من شأنهم ومما عرف من شنشنتهم ،