وناسب بعد هذا أن يذكر ما كانوا يعتذرون به عن الإيمان به ، والاعتداء بكتابه ، بعد تقرير الدعوة ، وإقامة الحجة ، فقال{ وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون} .
الغلف بضم وسكون وبضمتين جمع أغلف ، وهو ما يحيط به غلاف يمنع أن يصيبه شيء .والمراد أننا لا نعقل قولك ولا ينفذ إلى قلوبنا مفهوم دعوتك فهو بمعنى قوله تعالى{ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} .
وقد رد الله تعالى عليهم بما يشعر بكذبهم وعنادهم فقال{ بل لعنهم الله بكفرهم} أي أن قلوبهم ليست غلفا لا تفهم الحق بطبعها ، وإنما أبعدهم الله تعالى من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين ، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرفوه اتباعا لأهوائهم ، فهم قد أنسوا بالكفر وانطبعوا عليه ، فكان ذلك سببا في حرمانهم من قبول الرحمة الكبرى بإجابة دعوة خاتم النبيين .هذا هو معنى اللعن وقد ذكرت معه علته ليعلم أنه جرى على سنة الله تعالى في الأسباب والمسببات وأن الله لم يظلمهم بهذا ، وإنما ظلموا أنفسهم بالكفر الذي يستتبع الكفر ، والعصيان الذي يجر إلى التمادي في العصيان ، كما في السنة في أخلاق الإنسان .ولما ذكر اللعن معللا بالكفر الذي هو نتيجة تأثير أعمالهم السابقة في أنفسهم ، وكان مما يخطر بالبال أن أولئك القوم لم يكونوا كافرين ، بل مؤمنين بالله وكتابه ورسله إليهم ، استدرك فقال{ فقليلا ما يؤمنون} وإنما القلة في الإيمان باعتبار ما يؤمن به من أصول الدين وأحكام الشريعة ، وبالنسبة إلى اليقين في الإيمان ، وتحكيمه في الفكر والوجدان .
ولقد كان القوم يؤمنون بالشريعة في الجملة وكما تعطيه ظواهر الألفاظ ، ولكنهم لم يلبسوها مفصلة تفصيلا ، ولم يفقهوا حكمها وأسرارها ، فلم يكن لها سلطان على قلوبهم ، ولم تكن هي المحركة لإرادتهم في أعمالهم ، وإنما كان يحركها الهوى والشهوة ، ويصرفها عامل اللذة ، فالإيمان إنما كان عندهم قولا باللسان ، ورسما يلوح في الخيال ، تكذبه الأعمال ، وتطمسه السجايا الراسخة والخلال ، وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله تعالى .ومن العجب أن نرى آيات القرآن تبطله بالحجج القيمة ، والأساليب المؤثرة ، وأهل القرآن عن ذلك غافلون ، فقليلا ما يعتبرون ويتذكرون .
ومن مباحث اللفظ في الآية:أن كثيرا من المفسرين يزعمون أن"ما "زائدة وما هي بزائدة وفاقا لابن جرير الطبري ، وجل القرآن أن يكون فيه كلم زائدة وإنما تأتي"ما "هذه لإفادة العموم تارة ولتفخيم الشيء تارة ، ويقول ابن جرير إنما يؤتى بها في مثل هذا المقام كمبتدأ كلام جديد يفيد العموم كأنه قال:فإيمانا قليلا ذلك الذي يؤمنون به:وأما التي لتفخيم الشيء فكقوله تعالى{ 3:159 فبما رحمة من الله لنت لهم} أي فبسبب رحمة عظيمة الشأن خصك الله بها لنت لهم على ما لقيت منهم ، وقد بين تعالى هذه الرحمة بقوله في وصفه صلى الله عليه وسلم{ 9:128 بالمؤمنين رؤوف رحيم} وقوله{ 21:107 وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} .
هذا ما اختاره الأستاذ الإمام في تفسير قوله تعالى{ فقليلا ما يؤمنون} وهناك وجه آخر أورده ابن جرير في تفسيره ، وهو أنه لا يؤمن بالنبي وما جاء به إلا قليل منهم .والاستدراك على هذا الوجه أظهر ، فإنه لما بين أن كفرهم المستقر ، وعصيانه المستمر ، كانا سببا في لعنهم وإبعادهم ، كان للوهم أن يذهب إلى أنهم قوم قد سجل عليهم الشقاء وعمهم حتى لا مطمع في إيمان أحد منهم ، فجاء قوله تعالى{ فقليلا ما يؤمنون} يبين أن هذا الوهم لا يصح أن ينطلق على إطلاقه ، وأن تأثير ما ذكر في مجموع الشعب لم يستغرق أفراده استغراقا ، وإنما غمر الأكثرين ، ويرجى أن ينجو منه النفر القليل ، وكذلك كان .أقول:وفيه من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحق ما لا يعهد في كلام الناس .