وقد عللوا تكذيبهم للأنبياء الذي دفع إليه استكبارهم بقولهم:{ وقالوا قلوبنا غلف} وغلف جمع أغلف وهو ما عليه غلاف أي غطاء يمنع وصول ما يدعو إليه الرسول إلى قلوبهم ، وهو كقوله تعالى حكاية عن أمثالهم:{ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه . . . ( 5 )} [ فصلت] وذلك لأن الهوى إذا سيطر سد مسامع الإدراك الصحيح فيكون لهم قلوب لا يفقهون بها ، فهم لا يدركون ، وهم إذ يحكمون على أنفسهم ذلك الحكم ، فهو صادق فعلى قلوبهم غلاف من الهوى سد معرض عن الحق ، وهم يقولون ذلك القول مصرين على التكذيب ؛ ولذا قال تعالى:{ بل لعنهم الله بكفرهم} أي طردهم سبحانه وتعالى من رحمته ، وهو حكم تقريري ، مثبت لغلف قلوبهم ، والإضراب في قوله تعالى:{ بل لعنهم} إضراب عن قبول اعتذارهم ، ورده عليهم بأن هذا طرد لهم من رحمة الهداية إلى كفر الغواية .
ويفسر ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما معنى قولهم في قلوبنا غلف "إن قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم جديد يأتي به الرسول محمد أو غيره ، وقرأ ابن عباس غلف جمع غلاف ، والمعنى أن قلوبهم امتلأت علما حتى الكظة ووضع عليها غلاف محكم يمنع أن يخرج العلم ، ويمنع أن يدخل إليه غيره ، وهو تعبير تصويري ويتفق معه وصف استكبارهم ، ويكون معنى:{ بل لعنهم الله} لعناهم ، وطردناهم ، فالإضراب في "بل"رد لادعاء العلم بالنبوات ، بل هو غرور راكز في نفوسهم منعهم من إدراك الحقائق الدينية ، والرسالات الإلهية التي انتهت برسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم{[96]} .
وإن ذلك متفق مع قوله تعالى في سورة النساء:{ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( 155 )} [ النساء] .
وقد رتب الله تعالى على تغليف قلوبهم ووضعهم الغطاء المانع من دخول الحق إليها ، فقال تعالى:{ فقليلا ما يؤمنون ( 88 )} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أنه ترتب على تغليف قلوبهم عن الحق ألا يؤمنوا به ، و"ما"في النص واضح أنها في العدد لا في الإيمان ، فالإيمان لا يتجزأ إلى قليل أو كثير ، فهو كامل دائما ، أو هو الإذعان للحق بعد تصديقه ، وذلك لا يكون إلا كاملا ، فالقلة أو الكثرة في عدد المؤمنين لا في مقدار إيمانهم ، فالمعنى بسبب تغليف قلوبهم لا يؤمن إلا عدد قليل وقوله تعالى:{ فقليلا ما يؤمنون} إن قليلا وصف لمصدر محذوف تقديره:إيمانا قليلا أي ( قلة يؤمنون ) والقلة كما أشرنا ليست في أصل الإيمان ، بل فيمن اتصفوا بالإيمان ، لأنهم يكونون عددا قليلا ، ومصداق ذلك قوله تعالى في أهل الكتاب:{ منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ( 66 )} [ المائدة] وقوله تعالى في أهل الكتاب السابقين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم:{ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ( 113 ) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ( 114 ) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين ( 115 )} [ آل عمران] .