ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( 89 )
ذكرهم الله تعالى بأعمال سلفهم مع الأنبياء بصورة عامة ، ثم بدأ سبحانه وتعالى أعمالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة ، وهي في ذاتها أشد كفرا مما كان من أسلافهم مع الأنبياء السابقين ، ولذا كان الخطاب متصلا بخطاب أسلافهم ، فأسلاف أخذ عليهم الميثاق لا يعبدون إلا الله ، وأسلاف أخذ عليهم الميثاق ألا يسفكوا دماءهم وألا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، خوطب أسلافهم بذلك ، وكان الخطاب موجها لهم ، والميثاق في رقابهم ولذلك ندد بقتلهم أنفسهم ، وإخراجهم فريقا منهم من ديارهم .
قال تعالى:{ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدقا لما معهم} أخبر سبحانه وتعالى أنهم جاءهم كتاب ، وهو قد جاء مع رسول من بني إسماعيل عليه السلام بهذا الكتاب ، فذكر الكتاب ، وهو يقتضي أن يكون مع رسول ، فأعلم بالكتاب لأن الأمر أنه كتاب يشتمل على المواثيق مثل المواثيق التي أخذت عليهم ، ونقضوها ، فهو ميثاق جديد للمواثيق التي جاءتهم من قبل ، ولم يذكر اسم الرسول ؛ لأن الاعتبار لهذا الكتاب الذي وصفه تعالى بوصفين أنه من عند الله تعالى ، وما يكون من عند الله جدير بأن يتقبلوه بقبول حسن ، وأن يأخذوه بمأخذ الطاعة لأوامره ونواهيه ، والوصف الثاني أنه مصدق لما معهم فهو مصدق لما جاء في التوراة من وصف للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومصدق للمواثيق التي أخذت عليهم من ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا ، وأن يحسنوا إلى الأبوين وذوي القربى واليتامى والمساكين ، وابن السبيل ، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وأن يقولوا للناس حسنا من القول ، ويترتب على ذلك المعاملة الطيبة ، وإن هذا النبي الذي جاء معه الكتاب الذي أنزله الله تعالى ، وهو مصدق لما معهم من أوامر ونواه ومواثيق أخذت عليهم بقوة ، قد كانوا يعلمون بمجيئه ويتوقعونه .
ومعنى تصديق الكتاب لما معهم أنه تصديق لما معهم من كتاب كانوا يكتبونه بأيديهم ، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ، حتى يجيء بعض البهتانيين الكاذبين من دعاة نصرانية بولس ، فيقولون إن القرآن صدق ما بأيديهم من محرف التوراة المحرفة والمنحرفة والإنجيل المحرف ، إنما صدق القرآن الأوامر الأصلية مما اشتمل المواثيق التي أخذت عليهم بقوة ، ولم يصدق الذي حرفوه ولا المنحرف عن الحق والخلق المستقيم ، كالذي اشتملت من أن نبي الله داود زنى بحليلة جاره ، وأرسله إلى الميدان ليخلو له وجه عشيقته ، ذلك إفك بين لا يليق بأخلاق نبي جعله الله تعالى خليفته في الأرض ولا يليق بذي خلق كريم ، فهل هذا ما صدق به الكتاب ما معهم ، ذلك هو الضلال البعيد ، ولن يكون في كتاب منزل من عند الله ، ولا يدعيه إلا الذين هوت نفوسهم إلى مثل هذا الحضيض الأوهد من الأخلاق .
وإن اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلنون أنه سيكون نبي ، وأنهم يتوقعون أن لا يكون منهم كما ذكر من قبل ؛ ولذلك قال الله تعالى:{ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} السين والتاء للطلب أي يطلبون الفتح ، والفتح هو النصر كما في قوله تعالى:{ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده . . . ( 52 )} [ المائدة] وأطلق الفتح على النصر العادل ، لأن النصر يفتح الطريق أمام الحق ، وقد بشر الله تعالى بالنصر في قوله تعالى:{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ( 1 ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ( 2 ) وينصرك الله نصرا عزيزا ( 3 )} [ الفتح] .
كان اليهود إذا كانوا في حرب مع المشركين ممن يجاورونهم في المدينة يطلبون النصر بالنبي الذي حان حينه وحل ، وأوانه ويحسبون أنه سينصرهم على المشركين ؛ لأنه سيجيء بمحو عبادة الأوثان وتحطيمها .
روى محمد بن إسحاق بسنده عن قتادة الأنصاري عن أشياخ منهم:فينا والله وفيهم ، ( يعني في الأنصار واليهود الذين كانوا جيرانهم ) نزلت هذه الآية:{ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية ، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب ، وهم يقولون:إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله رسوله ، وكان من قريش آمنا به واتبعناه وكفروا به .
ولم يكن ذلك الاستفتاح بين اليهود من بني النضير وجيرانهم في المدينة ، بل كان بين اليهود ، وغيرهم في داخل الجزيرة ، يروي ابن عباس رضي الله عنهما أنه كانت يهود خيبر تقاتل غطفان ، فلما التقوا هزمت يهود خيبر فدعت بهذا الدعاء . وقالوا:"إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه إلا تنصرنا عليهم"فكان إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء ، فهزموا غطفان .
كان معروفا عند اليهود ذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، يستفتحون به ويدعون الله بحقه أن ينصرهم ، ولكنهم كسائر أسلافهم يتبعون أهواءهم ، فلما جاء من غير قبيلتهم أنكروا معرفتهم ، وادعوا أنه لا ينطبق عليه أوصاف من كان يستفتحون به ، وهم كما قال تعالى:{ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم . . . ( 146 )} [ البقرة] .
ولذا قال تعالى:{ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} ، الفاء للترتيب أي أنهم مع هذا الاستفتاح ترتب نقيضه وهو أنهم لما جاءهم الذي عرفوه جحدوه وكفروا به ، فهم رتبوا على الشيء نقيضه وبدل أن يذعنوا للحق الذي عرفوه أنكروه وكفروا به ، وهكذا شأنهم هم وأسلافهم دائما يعرفون الحق ويكفرون به ، عرفوا باطل فرعون ومع ذلك اتخذوا العجل .
عبر قوله تعالى عن إدراكهم للنبي صلى الله عليه وسلم وعلمهم به بأنهم عرفوه ، والمعرفة هي العلم الجازم المطابق للواقع عن دليل ، ومع ذلك كفروا به ، فكانوا مطرودين عن رحمة الله ، والحق الذي جاء به النبيون ، ولذا قال تعالى:{ فلعنة الله على الكافرين} الفاء للإفصاح ، إذ تفصح عن شرط مقدر مؤداه إذا كانوا قد كفروا بما عرفوا واستيقنوا فلعنة الله تعالى عليهم ، وأظهر في موضع الإضمار للتصريح بأنهم صاروا في عداد الكافرين ، وخرجوا عن دائرة المؤمنين الذين يؤمنون بأي شيء في كتابهم فهم قد كفروا بكتابهم وبما عندهم واللعنة هي الطرد ، ووراء الطرد المذلة ، وإن كفرهم هو السبب في طردهم وذلتهم .