قوله تعالى:{ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم فريقا كذبتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} لقد أوتي موسى عليه السلام التوراة ثم جيء من بعده بالرسل متتابعين مردفين وكان من أجلّهم وأعظمهم النبي الطاهر الكريم عيسى بن مريم .وذكره هنا في الآية ينطوي على إبراز واضح لمكانته الجليلة .فهو النبي المعصوم ،ذو العزم ،الذي تخلّق من غير أب ،ثم آتاه الله البينات – وهي الحجج والبراهين التي تشهد على صدق نبوته- وكذلك قد أيده الله بروح القدس وهو جبريل عليه السلام فقد كان له عونا وسندا يزداد به قوة وعزما .
لقد بعث الله النبيين من بعد موسى لهداية بني إسرائيل وترشيدهم إلى الحق والخير ،وكان أخرهم عيسى المسيح الذي جاءهم بالمعجزات الحسية المستبينة وبالدعوة إل المودة والتسامح وطيب القلوب وأن يؤوبوا إلى حقيقة التوراة دون تحريف أو تزييف ،لكن ذلك كله قد شق عليهم وأحنقهم فبيتوا في قلوبهم السوء والرغبة في الخداع والغدر ،فانقلبوا مستكبرين عتاة يتطاولون على النبيين بسوء القول ،ثم يميلون عليهم ميل الطغاة المجرمين فيقتلوهم قتلا ؛ذلك لأن الرسل قد جاؤوا بالحق وبما يخالف أهواء بني إسرائيل وبإلزامهم بأحكام التوراة التي تصرفوا في مخالفتها والتلاعب بنصوصها ومعانيها .
وليوافق ذلك ما يهواه بنو إسرائيل الذين مردت نفوسهم على التحريف في الكتاب واصطناع ما يروق لهم من ديانة وتعاليم .من أجل ذلك لم يستطيعوا طوق ما جاء به أنبياؤهم المرسلون فانفتلوا يكذبون تارة ويعتدون عليهم بالقتل تارة أخرى ،وما فتئت هذه الوصمة تستحوذ على طبائع يهود حتى جاء النبي الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ) فكادوا له كيدا وأرادوا قتله بالسم في خيبر: فقال عليه الصلاة والسلام في مرض موته:"ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري "{[94]} وفي ذلك يقول سبحانه:{أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) الهمزة للاستفهام .والفاء للعطف .وكلما ظرف زمان .فريقا مفعول به منصوب بقوله كذبتم .وفريقا الثاني منصوب بقوله تقتلون .وقدم المفعول به للاهتمام به{[95]} .