ثم قال الله - تبارك وتعالى -:
{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} تقدم الكلام على قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا}:{إن جاءكم فاسق} الفاسق هو من انحرف في دينه وعقيدته ومروءته ،وضده العدل وهو من استقام في دينه ومروءته ،فإذا جاءنا فاسق منحرف في دينه ومروءته بمعنى أنه مصر على المعاصي تارك للواجبات ،لكنه لم يصل إلى حد الكفر ،أو منحرف في مروءته لا يبالي بنفسه يمشي بين الناس مشية الهوجاء ،ويتحدث برفع صوت ،ويأتي معه بأغراض بيته ،يطوف بها في الأسواق وما أشبه ذلك مما يخالف المروءة ،فهذا عند العلماء ليس بعدل .{إن جاءكم فاسق بنبإ} أي جاءكم بخبر من الأخبار ،وهو فاسق ،مثال ذلك: جاءنا رجل حالق للحيته ،وحالق اللحية فاسق ،لأنه مصر على معصية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ،فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أعفوا اللحى ».وهذا لم يعف لحيته ،بل حلقها ،فهذا الرجل من الفاسقين ؛لأنه مصر على معصية ،جاءنا بخبر فلا نقبله لما عنده من الفسق ،ولا نرده لاحتمال أن يكون صادقاً ،ولهذا قال الله - عز وجل -:{فتبينوا} ولم يقل فردوه ،ولم يقل فاقبلوه ،بل يجب علينا أن نتبين ،وفي قراءة ( فتثبتوا ) وهما بمعنى متقارب ،والمعنى: أن نتثبت .
فإذا قال قائل: إذن لا فائدة من خبره .
قلنا: لا بل في خبره فائدة ،وهو أنه يحرك النفس حتى نسأل ونبحث ؛لأنه لولا خبره ما حركنا ساكناً ،لكن لما جاء بالخبر نقول: لعله كان صادقاً ،فنتحرك ونسأل ونبحث ،فإن شهد له الواقع بالحق قبلناه لوجود القرينة الدالة على صدقه ،وإلا رددناه ،وقوله - سبحانه وتعالى -:{إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} يفيد أنه إن جاءنا عدل فإننا نقبل الخبر ،لكن هذا فيه عند العلماء تفصيل ،دل عليه القرآن والسنة ،فمثلاً الشهادة بالزنا: لو جاءنا رجل عدل في دينه ،مستقيم في مروءته ،وشهد أن فلاناً زنا فلا نقبل شهادته ،وإن كان عدلاً ،بل نجلده ثمانين جلدة ؛لأنه قذف هذا الرجل البريء بالزنا ،وقد قال الله تعالى:{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً} ،فنجلده ثمانين جلدة ولا نقبل له شهادة أبداً ،ونحكم بأنه فاسق ،وإن كان عدلاً حتى يتوب ،وإذا شهد رجلان عدلان على زيد أنه زنا فلا نقبل شهادتهما ،ولا ثلاثة ،فإذا كانوا أربعة عدول فنعم ؛لأن الله تعالى قال:{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون} .وقال تعالى:{لولا جاءو عليه بأربعة شهداء}{فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} حتى وإن كانوا صادقين ،فلو جاءنا ثلاثة نعرف أنهم ثقات عدول وشهدوا بالزنا على شخص فهم عند الله كاذبون غير مقبولين ،نجلد كل واحد ثمانين جلدة ،وإذا جاءنا رجل شهد على شخص بأنه سرق فلا نقبل شهادته ،بل لابد من رجلين ،وإذا جاءنا رجل شهد بأنه رأى هلال رمضان فنقبل شهادته ،لأن السنة وردت بذلك ،فقد قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: تراءى الناس الهلال - يعني ليلة الثلاثين من شعبان - فرأيته فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته ،فصامه ،وأمر الناس بالصيام،وإذا كان رجل غنيًّا ثم أصيب بجائحة ثم جاء يسأل الزكاة ،وأتى بشاهد أنه كان غنيًّا وأصابته جائحة وافتقر فلا نقبل شهادة الواحد ،ولا نقبل شهادة اثنين ،بل لابد من ثلاثة ،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة: «إنها لا تحل المسألة » وذكر منها رجل أصابته جائحة - يعني اجتاحت ماله - فشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: إن فلاناً قد أصابته جائحة فحلت له المسألة( ثلاثة من ذوي الحجا ) يعني من ذوي العقل ،وكذلك نقبل رجلاً مع يمين المدعي كما لو ادعى شخص على آخر بأنه يطلبه ألف ريال ،فقلنا للمدعي: هات بينة ،قال: عندي رجل واحد ،فإذا أتى برجل واحد وحلف معه ،حكمنا له بما ادعاه وهناك أشياء أيضاً لا يتسع المجال لذكرها ،وعلى هذا فخبر العدل فيه تفصيل على ما تقدم وخبر الفاسق يتوقف فيه حتى يتبين الأمر ،ثم بين الله - عز وجل - الحكمة من كوننا نتبين بخبر الفاسق فقال:{أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} يعني أمرناكم أن تتثبتوا كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة ؛لأن الإنسان إذا تسرع ولم يتثبت فقد يعتدي على غيره بناءً على الخبر الذي سمعه من الفاسق ،وقد يكرهه ،وقد يتحدث فيه في المجالس ،فيصبح بعد أن يتبين أن خبر الفاسق كذب نادماً على ما جرى منه ،وفي هذه الآية دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتثبت فيما ينقل من الأخبار ولا سيما مع الهوى والتعصب ،فإذا جاءك خبر عن شخص وأنت لم تثق بقول المخبر فيجب أن تتثبت ،وألا تتسرع في الحكم ؛لأنك ربما تتسرع وتبني على هذا الخبر الكاذب فتندم فيما بعد ،ومن ثم جاء التحذير من النميمة ،وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم ،حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا يدخل الجنة قتَّات »أي نمَّام ،وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين يُعذبان ،فقال: «إنهما ليعذبان ،وما يعذبان في كبير » - أي في أمر شاق عليهما - «أما أحدهما فكان لا يستتر من البول » ،أو لا يستبرىء أو لا يستنزه من البول «وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة » يمشي بين الناس ينمّ الحديث إلى الآخرين ليفسد بين الناس ،ثم أخذ جريدة رطبة فشقَّها نصفين وغرز في كل قبر واحدة فقالوا: يا رسول الله ،لمَ فعلت هذا ؟قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ».ومن هذا النوع ما ينسب إلى بعض العلماء من الفتاوى التي لم يتكلم بها إطلاقاً ،أو تكلم ولكن فُهِمَ ما ينقل عنه خطأ ،فإن بعض الناس قد يفهم من العالِم كلمة على غير مراد العالِم بها ،وقد يسأل العالِم سؤالاً يتصوره العالم على غير ما في نفس هذا السائل ،ثم يجيب على حسب ما فهمه ،ثم يأتي هذا الرجل وينشر هذا القول الذي ليس بصحيح ،وكم من أقوال نسبت إلى علماء أجلاء ،لم يكن لها أصل ؛لهذا يجب التثبُّت فيما يُنقل عن العلماء أو غير العلماء ،ولا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الأهواء ،وكثر فيه التعصب ،وصار الناس كأنهم يمشون في عمى .