{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( 6 ) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( 7 ) فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 8 )} .
في الآيات:
( 1 ) أمر للمسلمين بالتثبت فيما يأتيهم من الأخبار وبخاصة من طريق الفاسقين المتهمين بصدقهم وإخلاصهم فلا يستعجلوا في التصديق والحكم فيتهموا أناسا أبرياء من غير يقين ويصيبوهم بالأذى فيصبحوا نادمين تظهر براءتهم .
( 2 ) وتنبيه تعقيبي على هذا الأمر ،فعلى المسلمين أن يعتبروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الموجود بينهم ،فلو أنه يصدق كثيرا مما يقال له ويأخذ به لنالهم شدائد ومشاق كثيرة .وأن الله قد من عليهم أيضا بفضله ونعمته ،فحبب إليهم الإيمان وزينه وكره إليهم الكفر والعصيان لأوامر الله ورسوله والانحراف عن ذلك ،ومن يتحقق فيه ذلك فهم الراشدون والله عليم بكل شيء حكيم في ما يأمر به ويقرره .
تعليق على الآية
{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ...}
إلى نهاية الآية الثامنة وما فيها من تلقين
لقد روى المفسرون{[1967]}روايات مختلفة الصيغ متفقة المدى للمناسبة التي نزلت فيها الآيات .منها رواية يرويها الطبري عن أم سلمة قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قليل من عودته من غزوة بني المصطلق التي كان من نتائجها المباركة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ببنت زعيمهم ودخولهم في الإسلام أن بعث رجلا لجباية صدقاتهم ،فهرعوا إلى مقابلته تعظيما لرسول الله ،فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ،فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم منعوا الصدقات وأرادوا قتله فغضب رسول الله واعتزم على إرسال بعث عليهم وبلغ القوم ،فأتوه ووجدوه يصلي الظهر ،فتصافوا أمامه وصاروا يقولون: نعوذ بالله من سخط الله ورسوله بعثت إلينا مصدقا فسررنا وقرت أعيننا ،ثم رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ورسوله ،فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال وأذن لصلاة العصر فنزلت{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق…} الخ وروى الطبري وغيره صيغا أخرى فيها اسم الرجل الذي بعثه رسول الله ،وهو الوليد بن عقبة ابن أبي معيط وإنه قال لرسول الله: إن بني المصطلق ارتدوا عن الإسلام وأرادوا قتلي مع أنهم رجعوا وسلموه صدقاتهم ،وإن كان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية ،فأراد أن يضربهم بمن قاله عنهم .وإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خالد ابن الوليد ينظر في أمرهم وينكل بهم وأوصاه بالتثبت وعدم التعجل .فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فرجعوا فأخبروه أن الجماعة متمسكون بالإسلام وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم .فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي أعجبه فرجع إلى رسول الله فأخبره الخبر فأنزل الله الآية .
والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة والذي نلحظه أن الآيات نعتت المخبر بالفاسق .ويصعب أن يصدق هذا على رسول وثق به النبي صلى الله عليه وسلم ،ولاسيما أنه من المهاجرين وابن رجل كان شديد المناوأة للنبي فانفصل عن أبيه والتحق بالنبي صلى الله عليه وسلم .
ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنها نزلت في حادث ما أخبر به مخبر غير موثوق به لو صدقه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون لترتب عليه ظلم أناس أبرياء .على أن الإطلاق في الآية الأولى أولا ،ومجيئها بعد الآيات التأديبية والتعليمية السابقة ثانيا ،يجعل من المحتمل أن يكون بينها وبين سابقاتها صلة نزول ووحدة سياق .ويسوغ التخمين أن الحادث قد وقع قبل نزول السورة ،فكان وسيلة للتنبيه والتحذير في سياق فصول التعليم والتأديب التي احتوتها السورة .
والآيات تحتوي بطبيعة الحال تعليما وتأديبا عامين مستمري التلقين والشمول وذوي خطورة عظيمة أخلاقية واجتماعية لا تخفى .ولعل في الآيتين الثانية والثالثة توكيدا لهذه الخطورة وتلقينها ؛لأن التثبت يكون أوجب وأوكد في الظروف التي لا يكون فيها نبي مشمول برعاية الله تعالى وتسديده وإلهامه ووحيه ،وذو نفوذ روحي عظيم على أتباعه .ولقد روى الترمذي ( أن أبا سعيد الخدري قرأ{واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} ثم قال: هذا نبيكم يوحي إليه وأخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتم فكيف بكم اليوم ){[1968]} مما فيه تدعيم للتلقين الذي نوهنا به آنفا .ولقد روى المفسر القاسمي أن قتادة قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التثبت من الله ،والعجلة من الشيطان} مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني .
والجملة الأخيرة من الآية الثانية جديرة بالتنويه ؛حيث انطوى فيها تنويه بالذين تتحقق فيهم الصفات المذكورة قبلها ،والتي تمنع صاحبها من الفسق والكفر والعصيان ،وحيث ينطوي في هذا التنويه حث على هذه الصفات والتزامها .
ولقد أورد ابن كثير في سياقها حديثا رواه الإمام احمد عن ابن رفاعة الزرقي قال ( لما انكفأ المشركون يوم أحد قال رسول الله استووا حتى أثني على ربي عز وجل فصاروا خلفه صفوفا فقال: اللهم لك الحمد كله .اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت .ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ،ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ،ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت ،اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك ،اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول .اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف .اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا .اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين ،اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ،اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك .اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إلاه الحق} حيث ينطوي في الحديث موقف دعائي جامع من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تعليم وأسوة للمسلمين فيما تمناه وسأله وعاذ منه .ومن جملة ذلك الاتصاف بالصفات التي احتوتها الجملة المذكورة .
هذا ،وجملة{إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} مستند قرآني لاشتراط العدالة في المخبر والراوي والشاهد ،ووجوب رد من عرف بفسقه .والفسق كلمة عامة تعني الانحراف أو التمرد عن كل ما أمر الله ورسوله به ونهيا عنه ورسماه من حدود إيمانية وتعبدية وأخلاقية واجتماعية .
وبين العلماء خلاف في أمر مجهول الحال{[1969]} .أي الذي لم يعرف فسقه ولا صلاحه فقال بعضهم: برده لاحتمال فسقه ،وقال آخرون بقبوله ؛لأن القرآن إنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق .والمجهول ليس محقق الفسق .ويتبادر لنا أن الرأي الثاني هو الأوجه .والله أعلم .
ولقد درج القضاة الشرعيون على استشهاد عدول على عدالة الشاهد بحيث يوجبون شهادة عدلين متحققة عدالتهما عندهم على عدالة الشاهد .ومن المعتاد أن يفعلوا ذلك سرا ،ثم يقرر القاضي في أمر الشاهد حسب ما سمعه من العدلين .وهذا سديد مستلهم من روح الآية .وإذا لم يشهد عدلان بعدالته رده القاضي .وبعض القضاة يردون مجهول الحال .والقوانين تمنح للمدعي عليه حق الطعن بالشاهد وتحميه في الوقت نفسه فعلى الطاعن أن يثبت صدق طعنه وإن لم يثبت عد قاذفا عليه العقاب ،وهذا عدل وسديد ومتسق مع التلقين القرآني .