جاء في أسباب النزول للنيسابوري قال: «نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ،بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) إلى بني المصطلق مصدّقاً ،وكان بينه وبينهم عداوةٌ في الجاهلية ،فلما سمع القوم تلقّوه تعظيماً لله تعالى ولرسوله ،فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم ،فرجع من الطريق إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) وقال: إنّ بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ،فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) وهمَّ أن يغزوهم ،فبلغ القوم رجوعه ،فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) وقالوا: سمعنا برسولك ،فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى ،فبدا له في الرجوع ،فخشينا أن يكون إنما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبته علينا ،وإنّا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ،فأنزل الله تعالى:{يا أيّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} ،يعني الوليد بن عقبة »[ 1] .
وإذا صحّ هذا الخبر ،فإنه يمنح الفهم القرآني للآية الجوّ الميداني الذي انطلقت منه وتحركت به في الواقع الإسلامي آنذاك ..فهناك فاسقٌ لا يتورّع عن الكذب ،جاء إلى النبي يخبر عن جماعة مسلمين ،وهناك مشكلةٌ كان من الممكن أن تحدث عند الاستجابة لهذا الخبر ،وهي إعلان محاربة هؤلاء الناس لمنعهم الصدقات ،وتصدّيهم لرسول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) بالطرد ،لولا أن يكشف الله لرسوله حقيقة هذا الشخص في فسقه وفي كذبه .
هكذا عاش المسلمون هذه المسألة في واقعهم بشكل حيّ ،لتتحرك القاعدة الشرعية على أرض الواقع ،بحيث تصبح أكثر تأثيراً في وجدانهم ،مما لو كانت مجرد فكرةٍ في الذهن .
وجوب تبين خبر الفاسق
{يا أيّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} في ما يوحي به الإيمان من استقامةٍ على خط الحقّ والعدل ،وانفتاح على الله ،في ما يأخذ به المؤمن أو يدعه في مواقع المسؤولية ،{إِن جَآءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ} يتعلق بحياتكم الخاصة أو بحياة الآخرين مما يمكن أن يؤثر تأثيراً سلبياً على صورة الموضوع الحقيقية من جهةٍ ،وعلى حركة واقع المعنيّ بالنبأ أو من حوله من جهةٍ أخرى ،{فَتَبَيَّنُواْ} الحقيقة بطريقتكم الخاصة التي تؤدي إلى الوضوح في الرؤية وتبعد كل عناصر الشك ،لأن فسق هذا المخبر قد يدفعه إلى الكذب في أصل الموضوع أو في تفاصيله ،الأمر الذي يفرض العمل على اكتشاف الصدق أو الكذب في كلامه بشكلٍ حاسم ،لئلا يؤدي تصديقه إلى ما لا تحمد عقباه من ظلم الأبرياء والتصرف معهم بغير حق ،{أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} أي لئلا تصيبوا بعض الناس من دون تثبيت أو من دون أساسٍ ،وتكتشفوا بعد ذلك طبيعة الموضوع ،{فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} على ما فعلتموه .
وهذا خطٌ أصيلٌ يحكم مسألة قبول الأخبار المنقولة عن الناس ،فلا يجوز قبول الخبر الذي لا يكون محل ثقة بسبب طبيعة المصدر الذي نقله لوجود خللٍ في استقامته الدينية أو عدم إمكانية الثقة بكلامه ،وبذلك نستطيع أن نعتبر القضية دائرةً مدار الوثاقة في النقل لا مدار الالتزام بشكلٍ عام وعدمه ،بعيداً عن مسألة الوثاقة وعدمها ،بحيث يكون الأساس هو فسق الناقل في ما يشتمل مسألة الكذب ،لا في ما يبتعد عنه ،كما في الناس الذين لا يلتزمون الحكم الشرعي في حياتهم العامة والخاصة ،ولكنهم يلتزمون الصدق بشكل عام ..
وقد تحدّث الأصوليون في علم أصول الفقه حول دلالة هذه الآية ،بطريق الدلالة المفهومية ،على حجية خبر العدل ،على أساس أن المنطوق قد علّق وجوب التبين على مجيء الفاسق بالنبأ ،ليكون المفهوم عدم وجوب التبين إذا لم يجىء به الفاسق بأن جاء به العدل ،وقد أثير حول ذلك إشكالات كثيرة ،لا مجال للحديث عنها الآن .