ثم قال - عز وجل - مستدلاًّ على قدرته على البعث:{ولقد خلقنا الإنسان} يعني ابتدأنا خلقه وأوجدناه وجعلنا له عقلاً وسمعاً وبصراً وتفكيراً وحديثاً للنفس ،{ونعلم ما توسوس به نفسه} يعني ونحن نعلم ما توسوس به نفسه ،أي ما تحدثه به نفسه ،دون أن ينطق به ،فالله تعالى عالم به ،بل إن الله عالم بما سيحدث به نفسه في المستقبل ،والإنسان نفسه لا يعلم ما يُحدث به نفسه في المستقبل ،والله يعلم ما توسوس به نفسك غداً وبعد غدٍ ،وإلى أن تموت وأنت لا تعلم وإذا كان الله يعلم ما توسوس به النفس فهذا العلم يوجب لنا مراقبة الله سبحانه وتعالى ،وأن لا نحدث أنفسنا بما يُغضبه وبما يكره .فعلينا أن يكون حديث نفوسنا كله بما يرضيه ،لأنه يعلم ذلك ،أفلا يليق بنا أن نستحيا من ربنا - عز وجل - أن توسوس نفوسنا بما لا يرضاه ؟!:{ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} ،حبل الوريد هو الأوداج ،وهما العرقان العظيمان المحيطان بالحلقوم ،يسمى الوريد ،ويسمى الودج ،وجمعه أوداج ،ويضرب المثل بهما في القرب ،أقرب شيء إلى قلبك هو حبل الوريد ،هذا أقرب إلى المخ ،وأقرب من كل شيء فيه الحياة هما الوريدان .واختلف المفسرون في قوله:{ونحن أقرب إليه} هل المراد قرب ذاته - جل وعلا - أو المراد قرب ملائكته ؟.
والصحيح أن المراد قرب ملائكته .ووجه ذلك أن قرب الله تعالى صفة عالية لا يليق أن تكون شاملة لكل إنسان ،لأننا لو قلنا: إن المراد قرب ذات الله لكان قريباً من الكافر وقريباً من المؤمن .لأنه قال:{خلقنا الإنسان} ،أي إنسان المؤمن والكافر{ونحن أقرب إليه} أي إلى هذا الإنسان الذي خلقناه من حبل الوريد ،فإذا قلنا الآية الشاملة ،وقلنا أن القرب هنا القرب الذاتي صار الله قريباً بذاته من الكافر ،وهذا غير لائق ،بل الكافر عدو لله - عز وجل - لكن الراجح ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن المراد بالقرب هنا قرب الملائكة ،أي أقرب إليه بملائكتنا ،ثم استدل لقوله بقوله تعالى:
{إذ يتلقى المتلقيان} فإذ بمعنى حين ،وهي متعلقة بالقرب ،أي أقرب إليه في هذا الحال حين يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد .
فإن قال قائل: كيف يضيف الله القرب المسند إليه والمراد به الملائكة ألهذا نظير ؟.
قلنا: نعم ،له نظير .يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه} قرأناه المراد بذلك جبريل ،ونسب الله فعل جبريل إلى نفسه ؛لأنه رسوله ،كذلك الملائكة نسب الله قربهم إليه لأنهم رسله ،كما قال تعالى:{أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} .وما اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله - هو الصواب .
فإن قال قائل: وهل الله تعالى قريب من المؤمن على كل حال ؟.
قلنا: بل في بعض الأحوال ،قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ».فهذا قربٌ في حال الدعاء ،مصداق ذلك قوله تعالى:{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون} .كذلك هو قريب من المؤمن في حال السجود ،لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ».وعلى هذا فيكون المؤمن قريباً من الله تعالى حال عبادته لربه ،وحال دعائه لربه ،أما القرب العام فإن المراد به القرب بالملائكة على القول الراجح .