التّفسير
كتابه جميع الأقوال:
يُثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد ،وهو ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب .
تبدأ الآيات فتتحدّث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول: ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) .
كلمة «توسوس » مشتقّة من الوسوسة وهيكما يراه الراغب في مفرداتهالأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان ،وأصل الكلمة «الوسواس » ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها .
والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ الله لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره ،فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده وأعماله وأقواله ،وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة .
وجملة ( ولقد خلقنا الإنسان ) يمكن أن تكون إشارةً إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه ؟!الخلق الدائم والمستمر ،لأنّ الفيض أو الجود منه يبلغ البشر لحظة بعد لحظة ،ولو انقطع الفيض لحظة لهلكنا ،كنور الشمس الذي ينتشر في الفضاء من منبع الفيض وهو الكرة الشمسية «بل كما سنبيّن فإنّ ارتباطنا بذاته المقدّسة أسمى ممّا مثّلنا( بنور الشمس ) » .
أجل ،هو الخالق ،وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات ،فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا ؟!
ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلا: ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) .
ما أبلغ هذا التعبير !!فحياتنا الجسمانية متعلّقة بعصب يوصل الدم إلى القلب ويخرجه منها بصورة منتظمة وينقله إلى جميع أعضاء البدن ،ولو توقّف هذا العمل لحظة واحدة لمات الإنسان ..فالله أقرب إلى الإنسان من هذا العصب المسمّى بحبل الوريد .
وهذا ما أشار إليه القرآن في مكان آخر إذ قال: ( واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون ){[4645]} .
وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي ،والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب ،فمع هذه الإحاطة لله تعالى بمخلوقاته ،وكوننا في قبضة قدرته ،فإنّ تكليفنا واضح ،فلا شيء يخفى عليه لا الأفعال ولا الأقوال ولا الأفكار والنيّات ولا تخفى عليه حتّى الوساوس التي تخطر في القلوب !
إنّ الإلتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان ،ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله ..فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واع ملتزم ورع تقيّ ..ورد في حديث أنّ أبا حنيفة جاء إلى الصادق ( عليه السلام ) يوماً فقال: رأيت ولدك موسى يصلّي والناس يعبرون من أمامه إلاّ أنّه لم ينههم عن ذلك ،مع أنّ هذا العمل غير صحيح !.
فقال الصادق ( عليه السلام ) ادعوا لي ولدي موسى فدُعي له فكرّر الإمام الصادق حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر قائلا: إنّ الذي كنت اُصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول الله عزّ وجلّ: ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) ..فاحتضنه الإمام الصادق وقال: بأبي أنت واُمّي يا مستودع الأسرار{[4646]} .
وللمفسّرين آراء عديدة في معنى «الوريد » ..فمنهم من يعتقد بأنّ «الوريد » هو العصب المتّصل بقلب الإنسان أو كبده ،ويعتقد بعضهم بأنّ الوريد جميع الأعصاب في بدن الإنسان ..في حين أنّ بعضهم يعتقد بأنّه عصب الرقبة فحسب !
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر تناسباً ،ولا سيّما إذا لاحظنا الآية 24 من سورة الأنفال آنفة الذكر !
وكلمة «الوريد »ضمناًمأخوذة من الورود ،ومعناه الذهاب نحو الماء ،وحيث أنّ الدميرد من هذا العصب إلى القلب ويخرج منه إلى سائر أعضاء بدن الإنسان سمّي بالوريد .
ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الاصطلاح المتداول في هذا العصر في شأن «الوريد والشريان »يعني المجاري التي توصل الدم من سائر أعضاء الجسم إلى قلب الإنسان ،وبالعكسهذا الاصطلاح خاصّ بعلم الأحياء ولا علاقة له بالمفهوم اللغوي للوريد .
/خ18