{كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} ( كلوا واشربوا ) فعل أمر ،وهذا الأمر ليس تكليفاً وإنما الأمر هنا للتكريم ،أي يقال لهم: كلوا من كل ما في الجنة من النعيم{فيهما من كل فاكهة زوجان} .{فيهما فاكهة ونخل ورمان} .وفيها من كل النعيم ،{واشربوا} مما فيها من الأنهار ،وأنهار الجنة ذكرها الله تعالى أربعة في سورة القتال{مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} .هذه أربعة أنهار: من ماء غير آسن ،أي: غير متغير ،والمياه في الدنيا إذا لم يأتها ما يمدها وبقيت راكدة لابد أن تتغير فتكون آسنة ،وماء الجنة لا يتغير ،غير آسن ،وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ،واللبن في الدنيا إذا أبقي يتغير ويفسد ،لكن في الآخرة لا يتغير ،وأنهار من خمر لذة للشاربين ،وخمر الدنيا فيه رائحة كريهة ثم أنه يقلب العاقل إلى مجنون ،وفيه أيضاً الصداع ،وفيه فساد المعدة ،لكنه في الجنة أنهار من خمر لذة للشاربين ،وقد قال الله تعالى في سورة الصافات:{لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} .والرابع{وأنهار من عسل مصفى}{هنيئاً بما كنتم تعملون} الهنيء هو الذي لا يكون له عاقبة سيئة ،ولا تبعة من تجاوز ،أو إسراف{بما كنتم تعملون} أي: بسبب ما كنتم تعملون ،( فالباء ) هنا للسببية ،وليست الباء للعوض ،لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لن يدخل الجنة أحد بعمله ».
فإن قيل: إن الله تعالى قال:{كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} ،فجعل الله تعالى ذلك بسبب العمل ،والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يدخل الجنة أحد بعمله » مع أن الله يقول:{بما كنتم تعملون} ؟
والجواب على هذا الإشكال أن يقال: الباء تأتي للسببية ،وتأتي للبدلية ،فإذا قيل: دخل الرجل الجنة بعمله ،فالمعنى السببية ،وإذا قال: لن يدخل الجنة أحد بعمله ،فالمعنى البدلية ،وأضرب مثلاً يبين هذا: بعتك الثوب بدرهم ،فالباء للبدلية ،لأن الدرهم صار عوضاً عن الثوب ،وإذا قلت: أدبت الولد بعبثه ،هذه للسببية ،إذن كلنا لن يدخل الجنة بعمله ؛لأن الله سبحانه وتعالى لو حاسبنا على عملنا ما قابل عملنا نعمة من نعم الله ،نعمة واحدة .فالنفس الآن الذي هو من ضرورة الحياة يخرج منك ويدخل بدون تعب ،وبدون مشقة ،وكم يتنفس الإنسان في الدقيقة ؟!فلو أننا حوسبنا على أعمالنا بالمعاوضة والمبادلة لكانت نعمة واحدة تستوعب جميع العمل ،ونحن الآن لا نحس بنعمة النفس لكن لو أصيب أحد منا بكتم النفس لوجد أن النفس من أكبر نعم الله ،لذلك نقول: إن الباء في قوله:{بما كنتم تعملون} للسببية وليست للبدلية ،وفي قوله:{بما كنتم تعملون} شمول لكل العمل: الجوارح ،والقلب ،واللسان .فالجوارح: كالأفعال ،كالركوع ،والسجود .والأقوال: كالأذكار .والقلوب: كالخوف ،والرجاء ،والتوكل وما أشبه ذلك ،فكل هذه تسمى أعمالنا .