{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}{آمنوا} ،الخطاب للعباد كلهم ،{بالله} رب العالمين{ورسوله} محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،والأمر هنا للوجوب الذي هو أشد أنواع الوجوب تحتماً ،والإيمان بالله أن تؤمن بأنه رب العالمين ،وأن تؤمن بأنه الإله المعبود حقًّا الذي لا يستحق العبادة إلا هو ،وأن تؤمن بأن له الأسماء الحسنى والصفات العليا ،وأن تؤمن بأنه الفعال لما يريد ،وأن تؤمن أنه لا معقب لحكمه وهو السميع العليم ،وأن تؤمن أن مرجع الخلائق إليه في الأحكام الشرعية والأحكام الكونية ،فمن يدبر الخلق إلا الله - عز وجل - والذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون هو الله - عز وجل -{ورسوله} محمد عليه الصلاة والسلام ،أرسله الله تعالى إلى جميع الخلق والإنس والجن .وختم به النبوات ،فلا نبي بعده ،والدليل{ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً} .يعني كان رسول الله خاتم النبيين فلا نبي بعده ،فمن ادعى النبوة بعده فهو كافر ،يجب أن يقص عنقه إلا أن يتوب ويرجع ،{وأنفقوا} ،الإنفاق البذل ،{مما جعلكم مستخلفين فيه} يعني المال ؛لأن الله جعلنا مستخلفين في المال فهو الذي ملكنا إياه ،فلا منة لنا على الله بما ننفق ،بل المنة لله علينا بما أعطى ،والمنة له علينا بما شرع لنا من الإنفاق ،ولولا أن الله شرع لنا أن ننفق لكان الإنفاق ضياعاً وبدعة ،ولكن شرع لنا أن ننفق ،فلله تعالى المنة أولاً فيما ملكنا من المال ،وله المنة ثانياً بما شرع لنا من إنفاقه ،وله المنة ثالثاً بالإثابة عليه{فالذين آمنوا منكم} أي: آمنوا بالله ورسوله ؛لأنه قال:{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا} أي مما جعلهم مستخلفين فيه ،{لهم أجر كبير} ،والآيات في هذا كثيرة{لهم أجر كبير} ،{ولهم أجر عظيم}{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} ،فوصف الله الأجور على العمل بأنه كبير عظيم كثير ،الكثير نأخذه من قوله:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وبهذا نعرف منة الله علينا: يأمرنا بالعمل ونعمل به ويأجرنا عليه أجراً كثيراً ،أجراً عظيماً ،أجراً كبيراً ،منة عظيمة كبيرة ،فعلينا أن نشكر الله ،وأن ننفق مما جعلنا مستخلفين فيه ،فهل ننفق كل ما نملك أو بعض ما نملك ؟قال الله تعالى:{وأنفقوا مما} ومن هذه هل هي للتبعيض أو هي لبيان ما ينفق منه إذا كانت للتبعيض فالمعنى أنفقوا بعض ما رزقكم وليس كله .
إذا جعلناها للبيان ،فالمعنى أنفقوا مما جعلكم حسب ما تقتضيه المصلحة: إما الكل وإما البعض ،والأحسن أن تجعل{مما} للبيان ،وإذا جعلناها للبيان صار الإنسان مخيراً ينفق كل ماله ،أو بعض ماله ،أكثره أو أقله ،حسب ما تقتضيه المصلحة ،ومعلوم أنه كلما كان المعنى أوسع كان الأخذ به كان أولى ،والقرآن الكريم العظيم معانيه واسعة عظيمة ،ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم مرة على الصدقة ،وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتسابقون إلى الخير ،كل واحد يحب أن يكون هو السابق ،فقال عمر - رضي الله عنه -: اليوم أسبق أبا بكر ؛لأن هذين الرجلين هما أخص الصحابة بالرسول عليه الصلاة والسلام ،وأحب الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ،والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أبا بكر أشد من حب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ،مع أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن عمه وزوج ابنته ،لكن أبا بكر - رضي الله عنه - يحبه أشد وأكثر ،فقد سئل: من أحب الناس إليك ؟قال: «أبو بكر» وقال: «لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر» والمهم أن عمر كان هو وأبو بكر - رضي الله عنهما - كفرسي رهان ،يحب أن يسبقه لا حسداً لأبي بكر - رضي الله عنه - ولكن حبًّا للفضل لنفسه ،قال: اليوم أسبق أبا بكر ،فجاء بنصف ماله لينفقه ،فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمر ،«ماذا تركت لأهلك » ؟قال: تركت لهم الشطر ،يعني النصف ،وجاء أبو بكر فقال: «ما تركت لأهلك » ؟قال: تركت لهم الله ورسوله ،أي أتى بكل ماله ،فقال عمر: - رضي الله عنه - والله لا أسابقك على شيء بعد هذا،عرف أنه يعجز أن يسبق أبا بكر ،والشاهد من هذا الحديث أن أبا بكر - رضي الله عنه - تصدق بجميع ماله ،فإذا رأى الإنسان المصلحة في أن يتصدق بجميع ماله ،وأن عنده من قوة التوكل والاعتماد على الله واكتساب الرزق ما يمكنه أن يسترد شيئاً من المال لأهله ونفسه ،فحينئذ نقول: تصدق بجميع مالك ،وإذا كان الأمر بالعكس فكان رجلاً أخرق لا يعرف أن يكتسب ،وليس هناك داع أن ينفق كثيراً ،فهنا نقول: الأولى أن تنفق بعض المال ،وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يحقق إيمانه ويثبته ،وكلما رأى فيه تزعزعاً استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ومضى إلى سبيله ،وأن ينفق من المال ،والمال محبوب قال الله تعالى:{وتحبون المال حباً جماً} وقال - عز وجل -:{وإنه لحب الخير لشديد} ولا يمكن أن يبذل الإنسان شيئاً محبوباً إليه إلا لما هو أحب ،فإذا بذل الإنسان المحبوب إليه ابتغاءً لرضوان الله ،علمنا أن الرجل يحب رضوان الله أكثر من المال ،وبذلك يتحقق الإيمان ،أسأل الله تعالى أن يجعلنا من ذوي العلم الراسخ والإيمان الثابت ،إنه على كل شيء قدير .