{آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}َ فإن الإيمان العميق المرتكز على أساس الفكر الهادىء والوجدان المنفتح ،يفتح للإنسان الكثير من الآفاق الرحبة في وعي الحركة الجادة في حياته ،ويبصّره الكثير من الأوضاع الغامضة التي يمكن للإيمان في مفرداته العقيدية أن يمنحها شيئاً من الوضوح ،ويعرّفه طبيعة الدنيا ومواقع الأمان فيها في مواجهة مواقع الخوف ،ويربطه بالآخرة في اعتبارها هدفاً متحركاً في كل ما يقوم به الإنسان من أعمال ،وما يصدر عنه من أقوال ،وما يتخذه من مواقف ،وما يديره من علاقات ،لأن الإيمان هو عمق الفكرة والإحساس والحركة والخط والهدف لدى الإنسان المؤمن في كل وجوده ،ومن هنا كان هو العنوان لكل قضاياه وأوضاعه ،لأنه ليس كلمةً تقال ،بل هو الكيان كله في معناه الشامل للإنسان .
{وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} فليس المال الذي تملكونه فيما بين أيديكم من النوع الثابت والمتحرك ،مما تملكون فيه حرية التحرك من ناحيةٍ ذاتية على أساس أنه شأنكم الذاتي الذي لا يحمل أيَّة مسؤوليةٍ في حسابات العطاء الإنساني ،بل هو ملك الله الذي يملك منكم ما لا تملكونه من أنفسكم ،فهو من موقع خلقه للوجود كله ،يملككم ويملك ما تملكون ،وقد حدد لكم الوظيفة في تصرفكم فيه ،فحلل بعض الأشياء وحرّم بعضها ،وأراد لكم أن تنفقوا منه على كثير من موارد الإنفاق في سبيله ،في ما يحتاجه المحرومون بجميع فئاتهم ،ويحتاجه الجهاد بجميع مواقعه ،وتحتاجه الحياة العامة بكل جوانبها .وذلك من صفة خلافتكم على المال ،ووكالتكم بالتصرف فيه ضمن الحدود التي حددها لكم ،ما يجعل من الملكية وظيفةً شرعيةً ،لا حالةً ذاتيةً مطلقة في ما يملكه الإنسان من امتيازات .وإذا كانت المسألة في هذا النطاق الشرعي ،فليس لكم حرية الامتناع عن الإنفاق في ما يريده الله لكم من موارده ،لأن ذلك يعني خيانة الوكيل للموكل في ما حدده له من الحرية في التصرف بماله .فكيف إذا كان الله هو الموكل ،وكان الإنسان الذي هو عبد الله ،هو الوكيل ؟
{فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} لأن الله قد جعل لهم الثواب العظيم على التحرر من سيطرة النزعة المادية على عقولهم ومشاعرهم وأوضاعهم ،وعلى الانفتاح على الله في خط الإيمان من أجل أن يطيعوه في ما أمرهم به أو نهاهم عنه ،بالرغم من تسويلات الشيطان وتهويلاته ،في ما ينذرهم بالفقر ويخوفهم بالهلاك ،ما يجعل من الإنفاق حركة إيمان ،وليس حالةً في الذات ،فيكون طاعةً لله وتمرداً على خطوات الشيطان الفكرية والعملية .