ثم قال:{خلق الإنسان من علق} خص الله تعالى خلق الإنسان تكريماً للإنسان وتشريفاً له ؛لأن الله تعالى يقول:{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} [ الإسراء: 70] .فلهذا نص على خلق الإنسان{خلق الإنسان} أي ابتدأ خلقه{من علق} جمع ،أو اسم جمع علقة ،كشجر اسم جمع شجرة ،والعلق عبارة عن دودة حمراء من الدم صغيرة وهذا هو المنشأ الذي به الحياة ؛لأن الإنسان دم لو تفرغ من الدم لهلك .
وقد بين الله عز وجل أنه خلق الإنسان من علق ،ولكنه يتطور ،وبين في آيات أخرى أنه خلق الإنسان من تراب ،وفي آيات أخرى خلقه من طين ،وفي آيات أخرى من صلصال كالفخار ،وفي آيات أخرى من ماء دافق ،وفي آيات أخرى من ماء مهين ،وفي هذه الآية من علق فهل في هذا تناقض ؟
الجواب: ليس هناك تناقض ،ولا يمكن أن يكون في كلام الله تعالى ،أو ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلّم شيء من التناقض أبداً ،فإن الله يقول:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [ النساء: 82] .لكنه سبحانه وتعالى يذكر أحياناً مبدأ الخلق من وجه ،ومبدأ الخلق من وجه آخر ،فخلقه من تراب ؛لأن أول ما خلق الإنسان من التراب ،ثم صب عليه الماء فكان طيناً ،ثم استمر مدة فكان حمأً مسنوناً ،ثم طالت مدته فكان صلصالاً ،يعني إذا ضربته بيدك تسمع له صلصلة كالفخار ،ثم خلقه عز وجل لحماً ،وعظماً ،وعصباً إلى آخره ،هذا ابتداء الخلق المتعلق بآدم .والخلق الآخر من بنيه أول منشئهم من نطفة ،وهي الماء المهين وهي الماء الدافق ،هذه النطفة تبقى في الرحم أربعين يوماً ،ثم تتحول شيئاً فشيئاً وبتمام الأربعين تتقلب بالتطور والتدريج حتى تكون دماً علقة ،ثم تبدأ بالنمو والثخونة وتتطور شيئاً فشيئاً ،فإذا تمت ثمانين يوماً انتقلت إلى مضغة - قطعة من لحم بقدر ما يمضغه الإنسان - وتبقى كذلك أربعين يوماً ،فهذه مائة وعشرون يوماً ،وهي بالأشهر أربعة أشهر ،بعد أربعة أشهر يبعث الله إليه الملك الموكل بالأرحام ،فينفخ فيه الروح ،فتدخل الروح في الجسد بإذن الله عز وجل ،والروح لا نستطيع أن نعرف كنهها وحقيقتها ومادتها ،أما الجسد فأصله من التراب ،ثم في أرحام النساء من النطفة ،لكن الروح لا نعرف من أي جوهر هي ؟ولا من أي مادة{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [ الإسراء: 85] .فينفخ الملك الروح في هذا الجنين فيبدأ يتحرك ،لأن نماءه الأول كنماء الأشجار بدون إحساس ،بعد أن تنتفخ فيه الروح يكون آدمياً يتحرك ،ولهذا إذا سقط الحمل من البطن قبل أربعة أشهر دفن في أي مكان من الأرض ،بدون تغسيل ،ولا تكفين ،ولا صلاة عليه ،ولا يبعث ؛لأنه ليس آدميًّا ،وبعد أربعة أشهر إذا سقط يجب أن يغسل ،ويكفن ،ويصلى عليه ،ويدفن في المقابر ؛لأنه صار إنساناً ،ويسمى أيضاً ؛لأنه يوم القيامة سيدعى باسمه ،ويعق عنه ،لكن العقيقة عنه ليست في التأكيد كالعقيقة عمن بلغ سبعة أيام بعد خروجه ،على كل حال هذا الجنين في بطن أمه يتطور حتى يكون بشراً ،ثم يأذن الله عز وجل له بعد المدة التي أكثر ما تكون عادة تسعة أشهر فيخرج إلى الدنيا .
وبهذه المناسبة أبين أن للإنسان أربعة دور:
الدار الأولى: في بطن أمه .
الدار الثانية: في الدنيا .
الدار الثالثة: في البرزخ .
الدار الرابعة: في الجنة أو النار وهي المنتهى .