{فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره .ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره}{من} شرطية تفيد العموم ،يعني: أي إنسان يعمل مثقال ذرة فإنه سيراه ،سواء من الخير ،أو من الشر{مثقال ذرة} يعني وزن ذرة ،والمراد بالذرة: صغار النمل كما هو معروف ،وليس المراد بالذرة: الذرة المتعارف عليها اليوم كما ادعاه بعضهم ،لأن هذه الذرة المتعارف عليها اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت ،والله عز وجل لا يخاطب الناس إلا بما يفهمون ،وإنما ذكر الذرة لأنها مضرب المثل في القلة ،كما قال الله تعالى:{إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} [ النساء: 40] .ومن المعلوم أن من عمل ولو أدنى من الذرة فإنه سوف يجده ،لكن لما كانت الذرة مضرب المثل في القلة قال الله تعالى{فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} .
وقوله تبارك وتعالى:{مثقال ذرة} يفيد أن الذي يوزن هو الأعمال ،وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم:
فمن العلماء من قال: إن الذي يوزن العمل .
ومنهم من قال: إن الذي يوزن صحائف الأعمال .
ومنهم من قال: إن الذي يوزن هو العامل نفسه .
ولكل دليل:
أما من قال: إن الذي يوزن هو العمل فاستدل بهذه الاية{فمن يعمل مثقال ذرة} ؛لأن تقدير الآية فمن يعمل عملاً مثقال ذرة .واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ،خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده ،سبحان الله العظيم » .
لكن يشكل على هذا أن العمل ليس جسماً يمكن أن يوضع في الميزان ؛بل العمل عمل انتهى وانقضى .
ويجاب عن هذا بأن يقال:
أولاً: على المرء أن يصدق بما أخبر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلّم من أمور الغيب ،وإن كان عقله قد يحار فيه ،ويتعجب ويقول كيف يكون هذا ؟فعليه التصديق ؛لأن قدرة الله تعالى فوق ما نتصور ،فالواجب على المسلم أن يسلم ويستسلم ،ولا يقول كيف ؟لأن أمور الغيب فوق ما يتصور .
ثانياً: إن الله تعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً توضع في الميزان وتثقل وتخف ،والله تعالى قادر على أن يجعل الأمور المعنوية أجساماً ،كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم في أن الموت يؤتى به على صورة كبش ويوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة ،فيشرئبون ويطلعون ،ويقال: يا أهل النار ،فيشرئبون ويطلعون ،فيقال لهم: هل تعرفون هذا ؟فيقولون: نعم ،هذا الموت ،مع أنه في صورة كبش ،والموت ( معنى ) ليس جسماً ،ولكن الله تعالى يجعله جسماً يوم القيامة ،فيقولون: هذا الموت فيذبح أمامهم ،ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت ،ويا أهل النار خلود ولا موت ،وبهذا يزول الإشكال الوارد على هذا القول .
أما من قال: إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال فاستدلوا بحديث صاحب البطاقة الذي يؤتى يوم القيامة به ،ويقال: انظر إلى عملك ،فتمد له سجلات مكتوب فيها العمل السيء ،سجلات عظيمة ،فإذا رأى أنه قد هلك أتي ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله ،فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟فيقال له: إنك لا تظلم شيئاً ،ثم توزن البطاقة في كفة ،والسجلات في كفة ،فترجح بهن البطاقة ،وهي لا إله إلا الله .قالوا: فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال .
وأما الذين قالوا: إن الذي يوزن هو العامل نفسه فاستدلوا بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان ذات يوم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهبت ريح شديدة ،فقام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ،فجعلت الريح تكفئه ؛لأنه نحيف القدمين والساقين ،فجعل الناس يضحكون ،فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «مما تضحكون ؟أو مما تعجبون ؟والذي نفسي بيده إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد » وهذا يدل على أن الذي يوزن هو العامل .
فيقال: نأخذ بالقول الأول: أن الذي يوزن العمل ،ولكن ربما يكون بعض الناس توزن صحائف أعماله ،وبعض الناس يوزن هو بنفسه .
فإن قال قائل: على هذا القول: إن الذي يوزن هو العامل ،هل ينبني هذا على أجسام الناس في الدنيا ،وأن صاحب الجسم الكبير العظيم يثقل ميزانه يوم القيامة ؟
فالجواب: لا ينبني على أجسام الدنيا ،فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة » ،وقال: اقرؤوا{فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}[ الكهف: 105] .وهذا عبدالله بن مسعود يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد » ،فالعبرة بثقل الجسم أو عدمه ثقله يوم القيامة بما كان معه من أعمال صالحة .يقول عز وجل:{فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره .ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره} .