قوله تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .
في هاتين الآيتين مبحثان أحدهما في معنى من لعمومه ،والآخر في صيغة يعمل .
أما الأول فهو مطروق في جميع كتب التفسير على حد قولهم: من للعموم المسلم والكافر ،مع أن الكافر لا يرى من عمل الخير شيئاً ،لقوله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} ،وفي حق المسلم ،قد لا يرى كل ما عمل من شر ،لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} .
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة بتوسع في دفع إيهام الاضطراب بما يغني عن إيراده .
أما المبحث الثاني فلم أر من تناوله بالبحث ،وهو في صيغة يعمل ؛لأنها صيغة مضارع ،وهي للحال والاستقبال .
والمقام في هذا السياق{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} ،وهو يوم البعث ،وليس هناك مجال للعمل ،وكان مقتضى السياق أن يقال: فمن عمل مثقال ذرة خيراً يره .ولكن الصيغة هنا صيغة مضارع ،والمقام ليس مقام عمل ،ولكن في السياق ما يدل على أن المراد يعمل مثقال ذرة ،أي: من الصنفين ما كان من ذلك ،لقوله تعالى{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} ،فهم إنما يروا في ذلك اليوم أعمالهم التي عملوها من قبل ،فتكون صيغة المضارع هنا من باب الالتفات ،حيث كان السياق أولاً من أول السورة في معرض الإخبار عن المستقبل: إذا زلزلزت الأرض زلزالها ،وإذا أخرجت الأرض أثقالها ،وإذا قال الإنسان ما لها ،في ذلك اليوم الآتي تحدث أخبارها ،وفي ذلك اليوم يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم التي عملوها من قبل ،كما في قوله:{يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ،وقوله:{وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} .
ثم جاء الالتفات بمخاطبتهم على سبيل التنبيه والتحذير ،فمن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة خيراً يره ،ومن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة شراً يره في الآخرة ،ومثقال الذرة ،قيل: هي النملة الصغيرة ،لقول الشاعر:
من القاصرات الطرف لو دب محول *** من الذر فوق الإتب منها لأثرا
والإتب: قال في القاموس: الإتب بالكسر ،والمئبتة كمكنسة برد يشق ،فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين ،وقيل: هي الهباء التي ترى في أشعة الشمس ،وكلاهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وسيأتي زيادة إيضاح لكيفية الوزن في سورة القارعة إن شاء اللَّه .
ولعل ذكر الذرة هنا على سبيل المثال لمعرفتهم لصغرها ،لأنه تعالى عمم العمل في قوله:{يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ،أيا كان هو مثقال ذرة أو مثاقيل القناطير ،وقد جاء النص صريحاً بذلك في قوله تعالى:{وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ في السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ} .
وهنا تنبيهان: الأول من ناحية الأصول ،وهو أن النص على مثقال الذرة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ،فلا يمنع رؤية مثاقيل الجبال ؛بل هي أولى وأحرى .
وهذا عند الأصوليين ما يسمى الإلحاق بنفي الفارق ،وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به ،وقد يكون مساوياً له ،فمن الأول هذه الآية وقوله:{فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} ،ومن المساوي قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً} ،فإن إحراق ماله وإغراقه ملحق بأكله ،بنفي الفارق وهو مساوٍ لأكله في عموم الإتلاف عليه ،وهو عند الشافعي ما يسمى القياس في معنى الأصل ،أي النص .
التنبيه الثاني في قوله تعالى:{وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ} .
رد على بعض المتكلمين في العصر الحاضر ،والمسمى بعصر الذرة ،إذ قالوا: لقد اعتبر القرآن الذرة أصغر شيء ،وأنها لا تقبل التقسيم ،كما يقول المناطفة: إنها الجوهر الفرد ،الذي لا يقبل الانقسام .
وجاء العلم الحديث ،ففتت الذرة وجعل لها أجزاء .ووجه الرد على تلك المقالة الجديدة ،على آيات من كتاب الله هو النص الصريح من مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك إلا في كتاب .
فمعلوم ذلك عند الله ومثبت في كتاب ما هو أصغر من الذرة ،ولا حد لهذا الأصغر بأي نسبة كانت ،فهو شامل لتفجير الذرة ولأجزائها مهما صغرت تلك الأجزاء .
سبحانك ما أعظم شأنك ،وأعظم كتابك ،وصدق الله إذ يقول:{مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} .