{ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ( 54 ) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قُبلا 1( 55 ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ( 56 ) ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ( 57 ) وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا 2 ( 58 ) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ( 59 )} [ 45-59] .
في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمِرائية .فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم ،ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم .
وفي هذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة ،كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها ،ونحن نرجح هذا ؛لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها .
أما بقية الآيات فقد احتوت:
1-تنديدا بالكفار: فقد جاءهم الهدى فكان الأحرى بهم أن يهتدوا ويؤمنوا ويتوبوا إلى الله ويستغفروه عما فرط منهم .ولكنهم امتنعوا كأنهم ينتظرون ليؤمنوا أن يأتيهم عذاب الله عيانا أو تأتيهم سنة الله في الأمم السابقة من البلاء الصاعق .وفي موقفهم هذا ما فيه من الحمق والتفريط .
2-وإشارة تقريعية إلى موقف الكفار: فإنهم بدلا من أن يهتدوا وينتفعوا بالهدى يلجأون إلى الجدل الباطل ليبطلوا به الحق ويغطوا عليه ،ويتخذوا آيات الله ونذره هزؤا وسخرية .
3- وتساؤلا تنديديا عما إذا كان يوجد من هو أشد ظلما وحمقا وانحرافا ممن يذكر بآيات الله ويدعى إلى الحق فيعرض ويتصامم ولا يبالي سوء العاقبة وما يقترفه من آثام .
4- وتعليلا لهذا الموقف: فإن الذين يقفون مثل هذا الموقف يكونون قد قست قلوبهم فلا تفقه دعوة الحق ،وصمّت آذانهم فلا تسمع كلمة الحق .فإذا دعوا إلى الهدى فلا يهتدون البتة بطبيعة الحال .
5- وتقريرا لحكمة الله في إمهالهم: فالله متصف بالغفران والرحمة من جهة فيتجاوز عن مثل هذا الطيش والتصامم رجاء أن يثوب أصحابها في النهاية إلى الحق ويرعووا عن موقفهم الباطل .واقتضت حكمته من جهة أخرى إمهالهم إلى موعد معين في علمه لن يجد الذين يصرون على ذلك الموقف من عذاب الله فيه موئلا ومهربا .ولولا صفات الله تلك وحكمته هذه لعجل لهم العذاب .
6- وتدليلا على ذلك بما كان من شأن الأمم السابقة: فقد ظلمت وانحرفت فأهلكها الله في الموعد الذي عينه لها .
وواضح أن الآيات استمرار للسياق أيضا ،وقد وجهت إلى العقول والقلوب معا بأسلوب قوي نافذ .وتعبير{إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} هو تعبير أسلوبي سبق أمثاله في سورة ( يس ) وغيرها بقصد بيان شدة تعامي الكفار وتصاممهم عن الحق ،وأوّلناه بما أوّلناه لأن ذلك مما تلهمه الآيات سواء في تنديديها وتقريعها أم في إنذارها ،كما أنه هو المتسق مع التقريرات القرآنية العامة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة عدا أنه فيما هو المتبادر تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآية بدليل أن قلوب معظمهم تفتحت فيما بعد فاهتدوا وآمنوا .وهذا يقال أيضا بالنسبة للآية:{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا 55} .
والمتبادر أن جملة{وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} هي بسبيل التنديد بخلق المجادلة والمماراة الذي يكون في كثير من الناس وبخاصة الذي لا يكون من أجل الحق وإنما من أجل الباطل .وهو ما ذكر في آية أخرى من الآيات نفسها .وينطوي في ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح ذلك كما هو المتبادر .
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متساوقة مع هذا التلقين أوردنا بعضها في سياق تفسير الآية [ 58] من سورة الزخرف ؛لأنها متناسبة معها .وهذه بعض أحاديث أخرى مطلقة المدى تتناسب مع الجملة التي نحن في صددها ،من ذلك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ ){[1328]} .وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ترك الكذب وهو باطل بني له في ربض الجنة ،ومن ترك المِراء وهو محق بني له في وسطها ،ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها ){[1329]} .وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كفى بك إثما ألا تزال مخاصما ){[1330]} .