ولقد قال تعالى بعد أن بين حالهم التي آلوا إليها ، أنه قدم لهم أسباب الهداية في إبانها ، فأعرضوا عنها وأثاروا الثارات حولها ، فقال تعالى:
{ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا 54} .
الصرف الرد من حال إلى حال ، والتصريف هو التحويل من حال إلى حال ، وتصريف القرآن الكريم هو ما اشتمل عليه من أساليب البيان والموعظة والاعتبار وبيان الأحكام والقصص والعبر ، وإيجاز وإطناب من غير فضول أو تطويل ، وزجر وترغيب وترهيب ، فمعنى قوله تعالى:{ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل} ، أي من كل حال من أحوال الهداية والرحمة وشفاء الصدور مما يجعل الحق واضحا بين أيديهم ، فأتى سبحانه فيه بضروب البيان والمعرفة والهداية مما لم يجعل موضعا لريبة مرتاب ، أو مراء من القول ، ولكن الكافرين أثاروا القول حوله فمرة قالوا:إنه سحر وأخرى قالوا إنه شعر ، ، وثالثة قالوا:أساطير الأولين ، ورابعة قالوا علمه بشر ، وهكذا كانت لهم أقوال باطلة فيه بمقدار ما تثيره أهوائهم ، ويثير جدلهم ، ولذا قال تعالى:{ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} ، أي أكثر شيء من شأنه أن يجادل ويمارى جدلا ، وهي منصوبة على التمييز كما هي في قوله تعالى:{ أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} ، أي أن الإنسان أكثر ذوي الألسنة والقول جدا ، فهو أكثر جدلا من الملائكة وغيرهم ، بل إن الملائكة لا يجادلون .
وإن الجدل من شأنه أن يضيع الحقائق بين المتجادلين ، وأن تتبعثر الحقائق على الأفواه ، فلا يضبط قول ، ولا يستقيم فكر ، ولذلك كان العلماء الربانيون ينهون عن الجدل ، وأشد من عرف بذلك الإمام مالك ، لأن مثارات الجدل هي مثارات الشيطان ، وإن الناس دائما يثيرون الجدل حول رسالات المرسلين ، ولا يقطع جدلهم إلا أن يأتيهم الهلاك أو العذاب ، ولذا قال تعالى:
{ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا 55} .