الجدل الكلاميّ الفارغ
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً} وذلك بالأسلوب القرآني المتنوّع الذي يعبر عن الفكرة بأكثر من طريقة ،ويواجه الواقع الإنساني بأكثر من فكرة ،ويحرِّك الفكر في أكثر من موقع… لينفتح على الحقيقة من كل جانب ،فيهتدي بها من خلال استعمال وسائل الهداية التي أودعها الله في شخصيته من السمع والبصر والعقل… في ما أراد الله له أن يحرّكها بطريقة واعية منفتحة .فليست هناك مشكلةٌ في طبيعة الأسلوب القرآني الذي يطرح الفكرة ،ليكون للإنسان العذر في ضلاله ،بأنه لا يملك الوضوح الذي يؤدي به إلى الإيمان ،بل المشكلة في طبيعة العقدة التي يعيشها الإنسان الذي يستسلم لنوازعه الذاتية في التمرُّد والانحراف ،لئلاّ يغيّر عاداته أو أفكاره ،ولئلا يدخل في الأجواء الرسالية التي تثير في داخله الإحساس بالمسؤولية ،وهو ما يمكن أن يتعب جسده ،أو يبعده عن مواقع الراحة واللهو والاسترخاء في حياته ...ولذلك فإنه يلجأ إلى الهروب من مواجهة الحقيقة الواضحة ،بالالتفاف عليها بطريقة الجدل الكلامي الفارغ الذي يثير الغبار في وجهها ،ولكنه لا يستطيع أن يحجبها عن العقول .
{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً} في ما تعنيه هذه الكلمة من الدخول في المنازعات والمشاجرات التي تريد أن تملأ الجوّ بالكلام ،وتشغله بالبحث في القضايا الصغيرة الجانبيّة ،ليبتعد الناس عن الارتباط بالمسائل الكبيرة في حركة العقيدة والحياة ،ولينصرفوا عن التفكير فيها بطريقةٍ علميةٍ موضوعيةٍ ،عندما تستهلك الهوامش الفكرية كل جهدهم ،فيأتون إلى المسألة الحاسمة بجهد مثقلٍ بالتعبٍ ،وروحٍ فارغةٍ من القوّة ،وإرادةٍ متعبةٍ من الخلاف ...وهكذا تضيع الحقيقة في غمار الجدل ،ويبتعد الإنسان عن العمق ،فلا يلتقي بحقائق العقيدة إلا من خلال ستارٍ كثيفٍ من المشاعر المتوترة ،والذهنيات المعقّدة ،والكلام الفارغ .