{قُبُلاً}: مواجهة ومعاينة .
حواجز بين الدعوة والإيمان بها
وتبقى مشاكل الدعوة هي التي تلحّ على الأجواء القرآنية ،لأنها تمثل الحواجز التي تحول بين الناس وبين الإيمان ،من خلال خضوع مجتمع الكفر لبعض الذهنيات المتخلّفة ،أو العقليات المتحجرة ،أو العُقد المتنوعة ،أو الخلفيات الفكرية التي تجعل الإنسان يعيش في حصار دائم في دائرة الفكرة ...وهذا ما يريد القرآن في هذه الآيات ،أن يحرّك الحديث حوله مع النبي( ص ) ،ليثير أمامه الواقع لئلا يشعر بالضعف أمام حالة التمرُّد ،وليعتبر المسألة طبيعية في نطاق هذا الواقع .
العصبية تمنع من الإيمان
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} ويتراجعوا عما هُم فيه من الكفر والضلال ،فينفتحوا على آفاق الهدى ،ويرجعوا إلى الله ،ويستغفروه عما أجرموا في حقه في التنكر لعقيدة التوحيد ،أو لخط الرسالة ...{إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِين} الذين كانوا يتمرّدون على الله وعلى الرسل ،بالكفر والضلال والعصيان ،لأنهم لا يريدون الإيمان ،ولا يستعدون للدخول في حوارٍ مع الرسل ،ولا يركنون إلى فكرٍ يوجههم ،ولا إلى علمٍ يهديهم ،بل ينطلقون في مواقفهم من موقع العصبية الذاتية أو القبلية أو التاريخية التي تربطهم بعقيدة الآباء والأجداد ،أو غير ذلك ،فيبادرون إلى إطلاق التحدي في وجه النبي ،أن يأتيهم بعذاب الله الذي يهلكهم إن كان من الصادقين .ويحاول النبيُّ بكل الوسائل أن يقرّب إليهم الفكرة ،ويحذِّرهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة ،فلا يستجيبون له ،فينزل الله العذاب عليهم ويهلكهم بالصاعقة ،أو بالصيحة ،أو بالزلزال ،أو بالطوفان ،أو بغير ذلك من ألوان العذاب ،فيستأصلهم ،فلا يبقى منهم أحد إلا المؤمنون .
وهذا ما عاشه النبي محمد( ص ) في بعض مواقف قومه منه ،فقد أبوا أن يؤمنوا لأنهم لا يلتزمون إرادة الإيمان ،ولا يعيشونها ،ولم يجدوا أمامهم إلا أن يهربوا من دعوة النبي( ص ) لهم إلى الحوار ،وذلك بإطلاق التحدي في وجهه ،أن تأتيهم سنة الأولين ،فيستريح منهم ،{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} أي مواجهةً وعياناً ومقابلةً ،بحيث يرونه ويشاهدونه عند إقباله عليهم ،ليؤمنوا بعد ذلك .أما تفسير العلاقات بين طلبهم هذا ،وبين عدم الإيمان ،لتكون سنّة الأوّلين إو إتيان العذاب مانعاً لهم عن الإيمان ،فقد يكون معناه ،أنهم كانوا يظنون أو يعتقدون أن المسألةأعني العذابليست بهذه الجدية ،وأن النبي( ص ) ليس قادراً على الاستجابة لهم ،لأنهم لا يعتقدون بنبوّته ،لعدم تقديمه لهم المعاجز التي اقترحوها عليه ،وبذلك يعتبرون الطلب الذي يقدمونه خروجاً من مأزق الدعوة النبوية إلى الفكر والتأمل والحوار الذي لا يريدونه ...وبذلك لا يكون هذا مانعاً حقيقياً ،ولكنه مانعٌ افتراضيٌّ باعتبار أنهم يتخذونه حجةً على عدم الإيمان ،لأن النبي لم يستجب لهم في ذلك ،مما يعتبرونه دليلاً على عدم صدقه بادعاء النبوة ،ولكنهم ليسوا جادين بذلك ،لأن النبي أراد لهم أن يناقشوا الإيمان معه من موقع العقل والفكر ،ليهتدوا على هذا الأساس ،بعيداً عن مسألة المعاجز ،أو التهديد بالعذاب المباشر ،لأن أمره بيد الله ،وقد اقتضت حكمته أن لا ينزل العذاب عليهم .