قوله تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلاً 54} .
قوله:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي رددنا وكثرنا تصريف الأمثال بعبارات مختلفة ،وأساليب متنوعة في هذا القرآن للناس ؛ليهتدوا إلى الحق ،ويتعظوا ؛فعارضوا بالجدل والخصومة .والمثل: هو القول الغريب السائر في الآفاق .وضرب الأمثال كثير في القرآن جداً ؛كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} ومن أمثلة ضرب المثل فيه{يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} الآية ،وقوله:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أولياء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ 41} ،وقوله:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذلك مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ساء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} الآية ،وكقوله:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ} الآية ،وقوله:{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحياة الدُّنْيَا كماء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الآية ،وقوله:{ضَرَبَ اللَّهُمَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شيء وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ 75} ،وقوله:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شيء وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يستوي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 76} ،وقوله:{ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شركاء في مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سواء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} الآية .والآيات بمثل هذا كثيرة جداً .وفي هذه الأمثال وأشباهها في القرآن عبر ومواعظ وزواجر عظيمة جداً ،لا لبس في الحق معها ؛إلا أنها لا يعقل معانيها إلا أهل العلم ؛كما قال تعالى:{وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يعقلها إِلاَّ الْعَالِمُونَ 43} .ومن حكم ضرب المثل: أن يتذكر الناس ؛كما قال تعالى:{وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 21} .
وقد بين تعالى في مواضع أخر: أن الأمثال مع إيضاحها للحق يهدي بها الله قوماً ،ويضل بها قوماً آخرين .كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ ماذا أَرَادَ اللَّهُ بهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ 26} ،وأشار إلى هذا المعنى في سورة «الرعد » .لأنه لما ضرب المثل بقوله:{أَنَزَلَ مِنَ السماء ماء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النَّارِ ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذلك يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جفاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرض كَذلك يَضْرِبُ اللَّهُ الأمثال 17}أتبع ذلك بقوله:{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ 18} .ولا شك أن الذين استجابوا لربهم هم العقلاء الذين عقلوا معنى الأمثال ،وانتفعوا بما تضمنت من بيان الحق .وأن الذين لم يستجيبوا له هم الذين لم يعقلوها ،ولم يعرفوا ما أوضحته من الحقائق .فالفريق الأولهم الذين قال الله فيهم{وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} ،والفريق الثانيهم الذين قال فيهم{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} وقال فيهم{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} قال بعض العلماء: مفعول «صرفنا » محذوف ،تقديره: البينات والعبر .وعلى هذا ف«من » للناس في هذا القرآن ليذكروا ،فقابلوا ذلك بالجدال والخصام ؛ولذا قال:{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلاً 54} وهذا هو الذي استظهره أبو حيان في البحر ،ثم قال: وقال ابن عطية يجوز أن تكون «من » زائدة التوكيد ؛فالتقدير: ولقد صرفنا كل مثل ؛فيكون مفعول «صَرَّفْنَا »: «كل مثل » وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش ،لا على مذهب جمهور البصريين .انتهى الغرض من كلام صاحب البحر المحيط .وقال الزمخشري: «من كل مثل » من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه ا ه .وضابط ضرب المثل الذي يرجع إليه كل معانيه التي يفسر بها: هو إيضاح معنى النظير بذكر نظيره ؛لأن النظير يعرف بنظيره .وهذا المعنى الذي ذكره في هذه الآية الكريمة جاء مذكوراً في آيات أخر ؛كقوله في «الإسراء »:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا 89} ،وقوله تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا 41} ،وقوله:{وَكَذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً 113} ،وقوله:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 27 قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 28} ،وقوله:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ 58} .والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً .
وقوله في هذه الآية:{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلا 54ً} أي أكثر الأشياء التي من شأنها الخصومة إن فصلتها واحداً بعد واحد .«جدلاً » أي خصومة ومماراة بالباطل ليدحضوا به الحق هو السياق الذي نزلت فيه الآية الكريمة ،لأن قوله:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي ليذكروا ويتعظوا وينيبوا إلى ربهم: بدليل قوله:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ} ،وقوله:{وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 21} فلما أتبع ذلك بقوله:{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلاً 54}علمنا من سياق الآية أن الكفار أكثروا الجدل والخصوصة والمراء لإدحاض الحق الذي أوضحه الله بما ضربه في هذا القرآن من كل مثل .ولكن كون هذا هو ظاهر القرآن وسبب النزول لا ينافي تفسير الآية الكريمة بظاهر عمومها ؛لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما بيناه بأدلته فيما مضى .ولأجل هذا لما طرق النَّبي صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة رضي الله عنهما ليلة فقال: «ألا تصليان » ؟وقال علي رضي الله عنه: يا رسول اللهصلى الله عليه وسلمإنما أنفسنا بيد الله ،فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا .انصرف النَّبي صلى الله عليه وسلم راجعاً وهو يضرب فخذه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً » والحديث مشهور متفق عليه .فإيراده صلى الله عليه وسلم الآية على قول علي رضي الله عنه «إنما أنفسنا بيد الله ،فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا »دليل على عموم الآية الكريمة ،وشمولها لكل خصام وجدل ،لكنه قد دلت آيات أخر على أن من الجدل ما هو محمود مأمور به لإظهار الحق ،كقوله تعالى:{وَجَادِلْهُم بالتي هي أَحْسَنُ} ،وقوله تعالى:{وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بالتي هي أَحْسَنُ} .وقوله «جدلاً » منصوب على التمييز ،على حد قوله في الخلاصة:
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا *** مفضلاً كانت أعلى منزلا
وقوله{في هذا القرآن} أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل جدلاً كما تقدم .وصيغة التفضيل إذا أضيفت إلى نكرة كما في هذه الآية ،أو جردت من الإضافة والتعريف بالألف واللاملزم إفرادها وتذكيرها كما عقده في الخلاصة بقوله:
وإن لمنكور يضف أو جردا *** ألزم تذكيراً وأن يوحدا
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة مبيناً بعض الآيات المبينة للمراد بجدل الإنسان في الآية الكريمة ،بعد أن ساق سنده إلى ابن زيد في قوله{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلاً 54} قال: الجدل الخصومةخصومة القوم لأنبيائهم وردهم عليهم ما جاؤوا به .وقرأ{مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ 33} ،وقرأ:{يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} ،وقرأ «حتى توفي » الآية ،{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً في قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ 7} ،وقرأ:{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُون 14 َلَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ 15} انتهى من تفسير الطبري .ولا شك أن هذه الآيات التي ذكر عن ابن زيد أنها مفسرة لجدل الإنسان المذكور في الآية أنها كذلك ،كما قدمنا أن ذلك هو ظاهر السياق وسبب النزول ،والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة في القرآن العظيم .والعلم عند الله تعالى .