{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{62}}
تعليق على آية{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ}
عبارة الآية واضحة ،وفيها تقرير لرضاء الله عن من آمن بالله واليوم الآخر إيماناً صادقاً وعمل الصالحات من أهل الملل المذكورة فيها وتبشير لهم .
ولقد روى الطبري أن الآية نزلت جواباً على سؤال من سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه عن مصير قوم من النصارى أخبروه ببعثته ،وكان من الممكن أن يؤمنوا لو التقوا به .
والمشكل في الأمر وضع الآية في سلسلة يعود ما قبلها وما بعدها إلى أحوال اليهود المعاصرين ومواقف الموجودين منهم في الحجاز من الرسالة الإسلامية وسيرة بني إسرائيل القديمة أولا ،وكون اليهود بعد عيسى يعتبرون على ما تفيده نصوص قرآنية عديدة مثل آيات سورة آل عمران [ 52-57] وآية سورة النساء [ 150] وآية سورة الصف [ 14] لأنهم كذبوا عيسى وكفروا به واستحقوا العذاب ولم يعودوا يستحقون كيهود المصير المذكور في الآية إلا إذا لم يكونوا مرتكبين المنكرات المعزوة إلى بني إٍسرائيل قديماً وحديثاً وماتوا كذلك قبل عيسى ثانياً ،وكون النصارى بعد بعثة النبي محمد يعتبرون كفاراً إذ ظلوا يجحدون رسالته ،ولا يستحقون ذلك المصير كنصارى حتى لو لم يكونوا ممن سجل القرآن عليهم الكفر بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم أو إن الله ثالث ثلاثة ،أو إن المسيح هو ابن الله على ما تفيده آيات عديدة منها آيات سورة النساء هذه:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً{150} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً{151} وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{152}} .ويقال هذا بالنسبة لليهود الذين بقوا على يهوديتهم بعد عيسى ،ثم بقوا عليها بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بطبيعة الحال .ومثل هذا كله يقال بالنسبة للصابئين الذين لم يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ،ولو كانوا متصفين بما وصفوا به في الآية .
ولقد قال السيد رشيد رضا: إن الآية بمنزلة الاستثناء من حكم الآية السابقة لها لكل من اتصف بما جاء فيها .وقال ابن كثير: إن الله تعالى لما بيّن حال من خالف أوامره وارتكب زواجره نبّه على أن من أحسن من الأمم السابقة وأطاع فإن له الجزاء الحسن .وكلا القولين وجيه ووارد ويفيد أن من جهة أن الآية جاءت بمثابة استطراد واستثناء ،وهذا مألوف في النظم القرآني وقد يكون سؤال ما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم من سلمان الفارسي بعد نزول الآية فتلاها النبي صلى الله عليه وسلم كجواب على السؤال الذي فيه سؤال عن حالة أناس صالحين من النصارى لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها نزلت لحدتها جواباً على السؤال .وهذا يجعلنا نرجح أن الآية في صدد بيان حالة اليهود الصالحين قبل بعثة عيسى وحالة النصارى الصالحين قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وحالة الصابئين قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كذلك والقرآن يتمم بعضه بعضاً .ولما كان قد دعا جميع الناسبما فيهم اليهود والنصارى والصابئين إلى الإيمان برسالة النبي محممد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والانتهاء عن ما هم عليه من انحراف عن الدين الحق والطريق القويم بآيات عديدة منها ما مرّ في سورة البقرة وفي السور السابقة ومنها ما سوف يأتي بعد .ولما كان طوائف مختلفة فيها يهود ونصارى وصابئون قد فهموا ذلك وآمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن على ما حكته آيات عديدة في سور مكية ومدنية مرّ بعضها ،وسيأتي بعضها بعد ،فلا يصح أن يوقف عند هذه الآية لحدتها وتؤخذ على ظاهرها ويتوهم متوهم أنها تنطوي على تقرير نجاة اليهود والنصارى والصابئين عند الله مع بقائهم على مللهم بعد البعثة النبوية إذا لم يؤمنوا بالنبي محمد والقرآن ويصبحوا من معتنقي الرسالة الإسلامية التي يمثلانها .
وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار »{[203]} .