( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( 62 )
الناس جميعا سواء أمام الله يجزيهم إن آمنوا
اختص الله سبحانه وتعالى الآيات السابقة ببني إسرائيل وكفرهم بالآيات المتتالية آية بعد آية ، وبتكرار وتوالي ذلك الكفر ليبين سبحانه وتعالى انصرافهم عن الحق مع كثرة الآيات ، وكفرهم بالنعم بعد تواليها . وكأن القارئ للقرآن الكريم يحسب أن العبر تنزل لمن يكفر بها ، والآية المعجزة تتوالى على من ينكرها . . فيبين الله تعالى أن الغاية من هذه النعم هي الإيمان ، وأنهم إن كفروا بها فباب التوبة مفتوح لهم ولغيرهم ، وأن الله تعالى خلق الخلق ليتفكر الناس فيؤمنوا وليجدوا فيها البرهان فيؤمنوا{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( 56 )} [ الذاريات] .
وقد قضى الله تعالى أن الإيمان مقبول من كل الطوائف والملل ، وقد جعل سبحانه ذلك الحكم الخالد الأبدي معترضا في أخبار بني إسرائيل ليفتح باب الإيمان لهم ، ولغيرهم ، فقال تعالى:{ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا} .
والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق ، وأنه وحده خالق كل من في الوجود وأنه لا تخرج حركة عن حركة في الوجود ، وإنما ذلك قيوميته وإرادته ، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأنه جلت صفاته ، فليس كمثله أحد ، وهو السميع البصير ، وأن يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب ، وثواب وعقاب ، وأن يؤمن بملائكته وكتبه ورسله .
هذا هو الإيمان فمن آمن من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الإيمان ، وأردف إيمانه بالعمل الصالح الذي يكون طاعة لله تعالى وفيه صلاح الناس ؛{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .
وكذلك من آمن من اليهود بالله والملائكة الأطهار والرسل الأمجاد ومنهم محمد بن عبد الله رسوله الأمين ، علم أن الله منزه عن مشابهة المخلوقين ، وأنه ليس كمثله شيء وعمل صالح{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .
وكذلك النصارى إذا آمنوا بالله ورسله وأنه ليس بوالد ولا ولد{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} . هذا هو الإيمان بالله حق الإيمان .
وكذلك الصابئون من توافر فيهم ذلك الإيمان الموحد بالله تعالى في الخلق والتكوين والعبادة وآمن بالغيب ، وملائكته وكتبه ورسله عامة ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاصة .
هؤلاء إذا آمنوا ذلك الإيمان ، وأخلصوا لله ذلك الإخلاص وقووا إيمانهم بالعمل الصالح الذي يكون فيه الطاعة لله ولرسوله والاستجابة لكل ما أمر به – من كانوا كذلك فلا خوف عليهم من عقاب ينزل بهم ، ولا يحزنون على ما فاتهم في ماضيهم من شر ، لأن الإيمان يجب ما قبله كما قال تعالى:{ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف . . . ( 38 )} [ الأنفال] فلا يأسون على ما فاتهم ويفرحون بما أتاهم .
ونقبس قبسة من سورة الإيمان كما علم جبريل أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
روى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال:كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد شعر الرأس ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبته إلى ركبته ، ووضع يديه على فخذيه ، ثم قال:"يا محمد ، ما الإسلام ؟ فقال:شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت . قال:صدقت ، فعجبنا منه يسأله ويصدقه ، ثم قال:يا محمد ، ما الإيمان ؟ قال:أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره ، قال:صدقت ، فعجبنا منه يسأله ويصدقه ، ثم:قال يا محمد ، ما الإحسان ؟ قال:أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فهو يراك ، قال:فمتى الساعة ؟ قال:ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، قال:فما أمارتها ؟ قال:أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"{[87]} .
هذا هو الإيمان الذي يزيل الفوارق التي تكون بين الأمم والجماعات والأديان . وقبل أن نتم الكلام حول الآية الكريمة نذكر أمورا ثلاثة فيها بيان للناس في ظل بيان القرآن الكريم .
أولهما الفاء في قوله تعالى:{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} هي في جواب الشرط أي أن الإيمان الذي شرحناه والعمل الصالح الذي ذكرناه هو الشرط لأن ينالوا الجزاء من أمن الخوف ، وألا ينالهم حزن على الماضي .
الأمر الثاني:قد عرفنا اليهود ، وهم منحرفون دائما ، ولكن فتح لهم باب الرجاء ، والنصارى كذلك ، فمن هم الصابئون ؟ .
الصابئون الذين ظهروا في الإسلام وقبله هم أكتم الناس لعبادة الأوثان ، ويعلمون صبيانهم كتمانها ، وقد قال عنهم أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن:وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة أو عبادتها واتخاذها آلهة ، وهم عبدة أوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق ، وأزالوا مملكة الصابئين لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا ، لأنهم منعوهم من ذلك ، وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين ، فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية ، فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت ، ودخلوا في غمار النصارى في الظاهر ، وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان ، فلما ظهر الإسلام دخلوا في غمار النصارى ، ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى ، إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان ، كاتمين لأصل اعتقادهم ، وهم أكتم الناس لاعتقادهم ، فالصابئة يعبدون الكواكب والأوثان ، ويظهرون بالنصرانية ، هذا ما يجب بيانه هنا ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا تاريخ الجدل .
الأمر الثالث:إن بعض النصارى – ومال ميلهم من في دينه لين – قال:إن القرآن الكريم يعترف بأن النصارى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ونقول إنه اشترط للاعتراف للنصارى بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون – الإيمان بالله تعالى ، وأنه الواحد الأحد ، وأنه ليس بوالد ولا ولد ، وليس له كفوا أحد ، فهل يؤمن النصارى في عصرنا ذلك الإيمان وهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة ، والله تعالى يقول:{ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة . . . ( 73 )} [ المائدة] ويقولون بألوهية المسيح كما قرروا ذلك في مجمع نيقية بإجماع القساوسة وإجماعهم إلى اليوم ، والله تعالى يقول:{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم . . . ( 72 )} [ المائدة] .