وإن بني إسرائيل شأنهم دائما ألا يستقروا ، بل هم في تململ مستمر ، ولا يهمهم إلا الطعام والشراب ؛ ولذا قالوا لموسى عليه السلام الذي ابتلى بهم:{ يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} .
كان اليهود ( لعنهم الله ) لا يهمهم إلا ما يطعمون ، فسألوا الأكل أولا ثم سألوا الماء ثانيا ، ثم سألوا تلون الأطعمة ، ولم يفكروا في أمر معنوي ، لم يفكروا في العزة بعد الذلة ، ولا في النجاة بعد القتل ، ولا في المعاني الروحية التي جاء بها موسى عليه السلام ، ولا في الإيمان بعد الكفر ، ولا في الرفعة بعد الحطة .
لم يفكروا في شيء من هذا إنما فكروا في الطعام وألوانه ، لم يطلبوا الهداية ، ولكن طلبوا ألوان الطعام ، وقال تعالى عنهم:{ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد} والمعنى:اذكروا معشر الحاضرين ما قلتم أنتم وأسلافكم ، ولا تفكير لكم في جهاد تجاهدونه ، ولكن في طعام تأكلونه ، نادوا موسى وهو لهم كالأم الرءوم:{ يا موسى لن نصبر على طعام واحد} وهو المن والسلوى ، وقالوا:على طعام واحد ، لأنه لون واحد متكرر مستمر ، لا يتغير ، فهو يعرض بطريقة واحدة ، والشيء المتكرر يكون شيئا واحدا ، ولو تجدد وتكرر ، ولو كان أكثر من واحد ، ولو كان طيبا ، إن الرجل المادي يسأم ما يقدم له كل يوم ، ولو كان أشهى ، وقالوا يائسين من أن يرضوا:لن نصبر على طعام ، فأكدوا النفي ب "لن"، ودلوا على تململهم بقولهم:"لن نصبر"، أي لن نستطيع أن نضبط أنفسنا فنحملها على الرضا بطعام واحد .
ورتبوا على نفيهم الصبر نفيا مؤكدا قولهم:{ فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها} ، الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر دل عليه قولهم لن نصبر تقديره ؛ فإذا كنا لا نصبر ،{ فادع لنا ربك} ومعناه اضرع إلى ربك الذي خلقك وربك لا إلى أن يهدينا بل إلى أن يخرج لنا مما تنبت الأرض ، وقوله "يخرج"في معنى جواب الأمر ، أي إن تدع ربك فإنه يخرج لنا ، فهم لتلهفهم على ما يأكلون افترضوا أن الدعاء قد وقع ، وافترضوا أن إجابة الدعاء قد تمت ، فقالوا هذا الكلام الدال على رغبتهم في الإجابة السريعة .
والبقل معروف ، وهو كل نبات لا ساق له غالبا كاللوبيا والفاصوليا ونحوهما كالفول ، وفومها وهو الثوم وقيل القمح واللغة لا تساعد ذلك ، وعدسها وبصلها وهما معروفان ، ولكن موسى عليه السلام لم يسارع بالدعوة التي طلبوها ، ولم تكن الإجابة التي رغبوها لإشباع نهمتهم ، بل ذاكرهم فيما يطلبون ، وبين لهم أنهم يطلبون غير الحسن ويتركون الحسن ، فقال لهم:{ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} ، أي أتتركون الخير ، وتطلبون بدلا منه الذي هو أدنى منه وإن كان من نعمة الله تعالى .
وعبر عن الذي طلبوه بأنه هو الذي أدنى في الرتبة والمنزلة الغذائية وأنه خلق كذلك ، وإن كان نعمة في ذاته ولكن رتبته دون ما أنتم فيه ، وعبر بقوله تعالى:{ الذي هو أدنى} أي أنه في ذاته دان في رتبته ولا يعلو عنها ولا يصل إلى الذي هو خير في ذاته ، وثابت على الخيرية ؛ لا يزيل صفة الخيرية ما تطلبون .
والأدنى معناه القريب ، ولما كان القريب سهل التناول ، والبعيد صعب التناول أطلق الأدنى على كل أمر يسهل الحصول عليه وفي العادة لا يكون ذا منزلة .
والسؤال استفهامي تقريري لإنكار الواقع ، أي فيه معنى التوبيخ ، لأنهم في نعمة بالطعام الطيب الذي يجيء من غير كد ولا لغوب ، وهو المن والسلوى ، ولأنهم في مكان من العزة والنعمة يحمدون الله تعالى عليهما ، ولا يفكرون في شهوة البطن مع هذه العزة إن كانوا أعزة كراما .
ولقد قال موسى كما أخبر ربه:{ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} ويفيد ذلك ضمنا بأن موسى لم يدع ربه كما طلبوا ولكن بين لهم المكان الذي يرون فيه ذلك ، وعبر بقوله:{ اهبطوا مصرا} ؛ لأن فيه إشارة إلى أنهم ينزلون من منزلة مرتفعة العزة والرفعة إلى مكان دون ذلك ؛ لأن الهبوط نزول من مرتفع إلى منخفض ، وهم ينزلون من العزة ، وضيافة الله تعالى إلى حيث يشبعون بطونهم ويرضون أهواءهم ، وبذلك استبدلوا الخبيث بالطيب .
وقوله:{ اهبطوا مصرا} بالتنكير يجعلنا نفكر أهي مصر التي اضطهدوا فيها ، وذبحت أبناءهم ، واستحيت نساءهم ، أم مصر فيه ريف وأرض طيبة زارعة منتجة ما يريدون من فوم وقثاء وعدس وبصل .
إن التنكير يفيد أي مصر فيها زرع وثمار ، ولكن الكثيرين من المفسرين يذكرون أنها مصر التي أخرجوا منها والتي أرهقوا في حياتهم فيها ، ومع ذلك لم يذكر أنهم عادوا إلى أرض مصر ، وموسى بينهم ؛ ولذا نرجح أن موسى عليه السلام طلب إليهم أن ينزلوا من علياء الضيافة الربانية والعزة الإلهية وأن يشبعوا شهواتهم في أي مصر فيه الريف وما تنبت الأرض من زروع وعيون بدل عزة الصحراء .
بعد هذا يئس موسى من إصلاحهم . . أراد أن يربيهم على الوحدانية فقالوا:يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . . وأراد موسى عليه السلام ، أن يبعدهم عن فرعون وقومه ، وأن يخلصهم من أوهامهم ، فانتهزوا غيبته ، واتخذوا العجل ، وعبدوه . . وطلب إليهم أن يقتلوا منابع الأهواء والشهوات في نفوسهم فتابوا وقبل الله تعالى توبتهم . . ولما أراد الله تعالى أن يختبر نفوسهم فأمرهم أن يدخلوا القرية ساجدين ، ويطلبوا ضارعين إليه أن يحط عنهم ذنوبهم ، ( دخلوا على أستاههم طالبين الحنطة ) .
طلب الله تعالى إليهم كل ذلك ، ولكن نفوسهم طبعت على الأهواء والشهوات والأوهام فتركهم الله تعالى لتؤدي هذه الأخلاق إلى ما تنتهي إليه ، وهو الذلة ، فما أذل النفوس كالشهوات والأهواء ، وإذا هانت النفوس ذلت ، وإذا سيطرت عليها الأهواء خنعت ، ولا يورث في النفس المذلة إلا المطامع .
ولذا قال تعالى:{ وضربت عليهم الذلة والمسكنة} أي أحاطت بهم المذلة لا يخرجون من دائرتها ، بل يتنقلون في دائرتها ؛ ينتقلون فيها من جانب إلى جانب ، ولا يخرجون منها ، فصارت حالهم في ذلتهم ، كحال من ضربت عليهم قبة لا يخرجون منها ، ولذلك عبر بضربت عليهم ، والمسكنة هي الخضوع والاستسلام للوهن والضعف ، وهي لازمة للذلة ، فحيث كانت الذلة كانت المسكنة ، والخضوع للظالم ، ولا يرضون إلا بالذل ، ولا يقبلون غيره ، فإن النفس إذا ألفت الذل ، واستمرأته ، ترضى بكل من يذلها وتسكن خاضعة له .
فالمسكنة مصدر ميمي على وزن مفعلة معناه الخضوع المطلق والرضا بالظلم ، أو الظهور بمظهر قبوله ، وهو السكون ممن لا يجابهون أهل الباطل بقولهم الحق يصك آذانهم صكا .
هذه الأخلاق هي نتيجة لسيطرة الأهواء والشهوات ، وهي الداء الذي يصحب من يعيشون في خصيب الأرض ولين العيش ، ويفكهون في ملاذ الدنيا ، ويستمرئون البقاء فيها .
ولقد قرر الله تعالى عقوبة لذوي الضمائر الفاسدة ، وهي أنهم يرجعون بغضب الله تعالى ، فهم مطرودون من رحمة الله تعالى ، فمعنى{ وباءوا بغضب من الله} أي أنهم رجعوا مصاحبين غضب الله تعالى ملازما لهم لا ينفكون عن الغضب ، بل إنه يلازمهم في كل أدوار حياتهم .
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الغضب الذي لازمهم بعد أن طردهم من رحمته ، وأنهم لا يستحقونها ، ذكر سبحانه وتعالى السبب في ذلك فقال تعالت كلماته:{ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق} .
الإشارة إلى ما أنزله الله تعالى عليهم من الذلة والمسكنة وأنهم أبعدوا عن رحمة الله مصحوبين بغضبه وقد لبسهم غضب الله تعالى ، ومعه الخزي والعار .
قال سبحانه في سبب ذلك:{ بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} آيات الله تعالى المعجزات الدالة على رسالة موسى ، وهي في ذاتها نفع لهم ، أنجاهم من فرعون الذي كان يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، إذ ضرب البحر بعصاه عليه السلام ففرقت البحر ونجا بنو إسرائيل وأغرق الله تعالى فرعون ، وأنه أنزل عليهم المن والسلوى إلى آخر آيات الله التي كانت نعما عليهم ومعجزات دالة على نبوة موسى عليه السلام ، والتعبير منه سبحانه وتعالى بقوله:{ بأنهم كانوا يكفرون} بيان لاستمرار كفرهم ، وتكرره بتكرار آياته ، فإن "كانوا"دالة على الاستمرار ، والتعبير بالمضارع للدلالة على تكرار الكفر بتكرار الآيات ، فما جاءتهم آية إلا كفروا بها ، وهي باهرة تتضمن نعمة أنعم بها سبحانه وتعالى بها عليهم ، فاجتمع فيهم كفر الإيمان بالكفر بدلائله ، وكفر النعمة بعدم شكرها ، وشكر المنعم واجب بحكم العقل والشرع ، وما جرى عليه الناس ، ويجرون عليه إلى يوم القيامة .
وقد ذكر سبحانه وتعالى جريمة ثانية إيجابية فالجرائم السابقة كلها سلبية ، الكفر سلب ، وعدم شكر الله تعالى حيث يجب الشكر جريمة سلبية أيضا ، أما الجريمة الايجابية فهي قتلهم الأنبياء بغير حق ، فهم لا يكتفون بعصيان الله تعالى وكفرهم بآياته ، بل يزيدون على ذلك لإمعانهم في الضلال بقتلهم النبيين الصديقين الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لهدايتهم ودعوتهم إلى الحق كما قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام .
ويظهر أنهم لم يقتلوا واحدا ، بل كانوا يقتلون النبيين كلما خالفوهم لا يرعون مقامهم من الله تعالى ، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التكرار ، وكأن قتل النبيين كان عادة لهم وشأنا من شئونهم لتغلغل الكفر والعصيان في نفوسهم ، واستمرائهم الباطل والعصيان ؛ ولذلك علل تعالى تكرار كفرهم للآيات ، وقتلهم للأنبياء بقوله:{ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( 61 )} .
وقوله تعالى في وصف قتلهم للأنبياء بأنه بغير الحق ، وصف لإفادة عتوهم وكفرهم لا لبيان أن القتل للنبيين قد يكون بحق ، بل لبيان أن فعلهم إثم وليس له مبرر ، وأن كونه بغير الحق للتشنيع على فعلهم ، وقبح تصرفاتهم ، وقد علل تعالى كما تلونا بأن ذلك كان بعصيانهم واعتدائهم .
{ ذلك بما عصوا} أي ذلك الجرم الذي ارتكبوه سببه أنهم عصوا ؛ أي أن نفوسهم تمردت واستمرأت العصيان ، وأنها أظلمت بتراكم المعاصي حتى استمرأتها ، وهل يصدر من النفوس المظلمة إلا ما يكون فسادا وشرا ؟ ! ويصلون إلى أقبح أنواع الشرور ، وهو قتل الهداة أحباب الله تعالى وهم الأنبياء .
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن ذلك لمجرد الاعتداء ، فهم في طبيعتهم العدوان ؛ لأن المعصية إذا استمرت ولجوا في العصيان ، وسيطرت الأثرة عليها يكون من آثارها لا محالة الاعتداء ، الاعتداء في طلب الأشياء ، والاعتداء بسيطرة الأهواء والشهوات ، والاعتداء بقتل الأنبياء ، فالاعتداء والعصيان من شئونهم ، وهكذا هم بلاء هذا الوجود .