كان بنو إسرائيل يعيشون مع موسى عليه السلام في معجزات حسية مستمرة ، ولو كانت قوة الدليل وحسيته سببا للإيمان لكان بنو إسرائيل أشد الناس إيمانا وأقواهم يقينا ، ولكن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلوب الأتقياء فيدركون الحق ، ويذعنون له ، ويطمئنون إليه . وقد أرانا الله تعالى آياته في بني إسرائيل ، فكلما أتاهم بدليل وكلما أتتهم آية كفروا بها ، فلو كانوا يذعنون للحق لأذعنوا لبعض هذه الآيات ، ولكنهم قوم معاندون ، مناقضون الحس .
شكوا إلى موسى أنهم لا يجدون الماء الذي يشربونه فاتجه موسى إلى ربه ضارعا يطلب الماء ، ولذا قال تعالى:{ وإذ استسقى موسى لقومه} .
وإذ – كما ذكرنا – دالة على الوقت ، والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي استسقى فيه موسى لكم ، تذكروا عطشكم في ذلك الوقت ، وكيف استسقى موسى ربه لأجلكم ، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يضرب بعصاه الحجر ، فضرب ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، هي بقدر عدد الأسباط أولاد يعقوب عليه السلام ، وذريتهم من بعدهم ، اذكروا ذلك وتذكروه ، فإنه معجزة من الله تعالى . فكان لكل سبط عينه ، يشرب منها هو ومن معه من سبطه لكيلا يتزاحم على الماء ، فينال الماء القوي ، ويضيع الضعيف ، واستسقى ؛ السين والتاء للطلب ، أو السؤال ، والاستسقاء الضراعة إلى الله تعالى أن ينزل الماء ، فهذا الاستسقاء عبادة لأنه دعاء الله تعالى ضارعا إليه أن ينزل عليه الماء ، والدعاء المتضرع عبادة ، في ذاته ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جف المطر ، وأجدبت الأرض استسقى . . فقد خرج إلى المصلى متواضعا ، متذللا متوسلا متضرعا ودعا ربه أن يسقى المطر ، فنزل مدرارا ، حتى خشي الناس أن يضر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:( اللهم حوالينا ، ولا علينا ){[86]} .
ولما استسقى موسى عليه السلام لم ينزل عليه مطر ، ولكن قال له ربه:{ اضرب بعصاك الحجر} والعصا هي آية الله تعالى ، ومعجزة موسى التي انقلبت حية تسعى ، والتي بها ضرب البحر فانفلق ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، ضرب بها الحجر ، ولم يكن حجرا معينا له صفات ذاتية ، بل إنه للعهد الذهني الذي ينطبق عليه اسم الحجر ، كما تقول ادخل السوق ، فالمراد أي شيء ينطبق عليه اسم السوق ، ضرب موسى عليه السلام الحجر{ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} انفجرت:انشقت ، وخرجت من الحجر اثنتا عشرة عينا ، والعين هي الموضع الذي يخرج منه كعين زمزم ، فماء العيون لا يكون من السماء كالمطر ، ولكن يكون من الأرض ، أو الحجر ، كما رأينا ما فعلته عصا موسى عليه السلام ؛ وهنا ثلاث معجزات خارقة للعادة:
الأولى:ضرب الحجر بالعصا ، فينبثق منه الماء ، وهذه معجزة العصا .
والثانية:أن الضرب في الحجر الذي لا يخرج منه الماء عادة ، ولا يعلم أن الماء ينبع من الأحجار ، ولكن من الأرض اللينة التي لا تكون حجرا متماسكا ، وقد يخرج ماء العيون من الجبال ولكن يكون من شقوق يخرج منها لا من ذات الحجر ، أما الذي يخرج من ذات الحجر فإنه خاص بمعجزة موسى عليه السلام .
الثالثة كون الماء يخرج اثنتا عشرة عينا على قدر عدد الأسباط ، و{ قد علم كل أناس مشربهم} أي مكان شربهم ، أي العين التي خصصت لهم ، وقد كان الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه مكعبا له أربعة جوانب ظاهرة على الأرض ، فكان في كل جانب قد انبثق فيه ثلاث عيون ، فيكون عددها في كل اثنتا عشرة عينا ، وعلم كل أناس العين التي يشربون منها ، فكان لكل سبط منهم ثلاث عيون .
وإن هذا التوزيع بينهم لا يفرق ، ولكنه يجمعهم ، فالعدل يجمع ولا يفرق ، وفوق ذلك فيه تسهيل للتناول فلا يتزاحمون ولا يتنازعون ولا يضيع الضعيف بينهم .
وقد بين الله تعالى أن الماء مباح لهم ، كما أبيح لهم الطعام ؛ ولذا قال تعالى:{ كلوا واشربوا} أي أنه أبيح لهم الأكل من المن والسلوى ، كما ذكرنا آنفا ، أو أبيح لهم أن يأكلوا من ثمرات هذا الماء الذي يجيء إليهم من هذه العيون التي تفيض في الأرض غير مقطوعة ، ولا ممنوعة .
وإن النعمة إذا كثرت على أمثال بني إسرائيل كانت مظنة الفساد ، ولذا قال تعالى:{ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( 60 )} العثو ، من عثى يعثى بمعنى أفسد ، أو بمعنى أضاع كل ما فيه من خير ، فاعتدى على حق غيره ، فيعثون يشمل كل فعل يؤدي إلى الاضطراب والإفزاع ومنع الخير ، ويتقارب من معنى العبث ، ويكون قوله تعالى:{ مفسدين} ليس تكرارا للفظ لا تعثوا أو تأكيدا ، إنما هو لبيان العثو ، وهو القصد إلى الإفساد ، فمفسدين معناها قاصدين إلى الإفساد .