قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فافجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) وتلك نعمة عظيمة أخرى أنعمها الله على بني إسرائيل إذ فجرت لهم من الصخر الصلد ينابيع تفيض بالماء فقال: (وإذ استسقى موسى لقومه) السين الأولى تفيد الطلب أي أن موسى طلب السقاية لقومه حال كونهم في التيه ،فأوحى الله إليه أن يضرب الحجر بعصاه ،وليس لنا هنا أن نخوض في حقيقة الحجر لنعلم أصله وموضعه وغير ذلك من وجوه المعرفة التي لا تزيد من أهمية القضية شيئا ،فثمة روايات يخالطها الغلو والإفراط ولا تستند إلى الدليل الصحيح الموثوق مما يثير في الذهن الشك وعدم التصديق فمن قائل بأن الحجر كان مربعا طوريا ،نسبة إلى جبل الطور وأنه على قدر رأس الشاة ،وقائل بأنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى وقائل بأن الله تعالى أمر موسى أن يضرب حجرا بعينه بعد أن بينه له ،وقائل بأنه هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه لما اغتسل حتى برأه الله مما رماه به قومه ،الى غير ذلك من الروايات المستمدة في غالبها من الإسرائيليات التي كثيرا ما يعوزها الدليل ،ويخالطها الشك ،وعلى هذا فكل الذي نركن إليه في هذا الصدد أن نبي الله موسى عليه السلام قد ضرب الحجر بعصاه بناء على تكليف من ربه ،فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من غير أن نخوض في ذلك تفصيلا يقود إلى التكلف .
قوله: (قد علم كل أناس مشربهم) كان بنو إسرائيل في التيه كثيرين ،فقضت مشيئة الله المنان أن تتدفق لهم المياه بغزارة ليشربوا في سهولة ويسر ولئلا يتضايقوا أو يتزاحموا فانفجرت من الحجر اثنتا عشرة عينا وفي ذلك ما يسد حاجة بني إسرائيل وزيادة ،وفيه ما يدرأ عنهم حرارة العطش ويفيض عليهم ببركة العيش الهانيء الرخي .
ويبدو أن عدد العيون الدافقة بالماء جاء كفاء لعدد أسباط بني إسرائيل وهم أسباط قد انحروا من نسيل أبيهم يعقوب وكانوا اثني عشر فردا قد تناسلوا وتكاثروا حتى آلوا إلى خلق كثير قارب المليون من النسمات كما يظهر من الأخبار التي تروي مثل هذه القضايا ،وقد علم كل سبط من هؤلاء الأسباط (مشربهم) أي موضع شربهم الذي يستقون منه دون تجاوز لغيره ،ليكون في ذلك نظام لهم مطرد تستقيم فيه طريقتهم في الشرب ،فلا يتزاحمون أو يفتاتون .
وقوله: (كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعتوا في الأرض مفسدين) يأمرهم أمر إباحة بأن يأخذوا بنصيبهم من خير الله وفضله في المأكل والمشرب ،فيأكلوا المن والسلوى وهما طعامان نافعان جيدان كان اليهود ،يتناولون منهما ما شاؤوا دون تعب ،ويشربون الماء العذب المتفجر من الحجر بإذن الله ،وهو سبحانه نهاهم لذلك عن أن يعيثوا في الأرض مفسدين .
وذلك من الغيث وهو الشدة الفساد ،وكأن العيث في الأرض بالفساد بات ديدنا تصطبغ به طبيعة بني إسرائيل الذين آلوا إلا أن يجحدوا النعم التي تهاطلت عليهم طيلة حياتهم مع أنبيائهم وفي طليعتهم موسى عليه السلام ،وكذلك أن يصموا آذانهم عن كلمات الخير يرددها لهم أنبياؤهم وعلماؤهم ،لكن ذلك كله لم يؤثر في هذه الطبيعة الفاسدة المعطلة إلا تأثيرا هينا ،حتى بقي سوادهم الأعظم يجتر في دخيلته الغش والخداع فانطلقوا في الأرض يعيثون فسادا .