قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وقومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (.
تحكي لنا هذه الآية قصة البطر الذي ركب النفسية اليهودية بعد أن ضاقوا بطعام المن والسلوى فانقلبوا غير صابرين على هذا الطعام وحده ليرجوا بعد ذلك نبيهم موسى كي يتضرع الى الله عسى أن يخرج لهم من نبات الأرض المختلف كالبقل والفوم والبصل ،أما البقل فهو نبات اخضرت به الأرض ،وقيل: ما ليس له سوق من النبات .
والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة ،وأما الفوم فهو موضع خلاف المفسرين وأهل اللسان فقد قيل: إنه الثوم المعروف ،وقيل الحنطة وقيل غير ذلك .
هكذا بطر اليهود معيشتهم حتى عافت نفوسهم عيش الخير والنعيم حيث الراحة والرخاء وحيث الطعام النافع الجيد الذي كانوا يتناولونه في غاية اليسر وهو المن والسلوى ليستبدلوا بدلا من ذلك خسيس الطعام ودنيئه مثل البقل والقثاء والفوم وغير ذلك من أصناف الطعام الذي يدنو دون المن والسلوى سواء في المذاق والطعم أو في سهولة الحوز والتحصيل أو في كمال المشروعية والحل كما قيل: وأروع ما يرد في هذا الصدد من بيان كاشف مصور ومعبر هو قول الله سبحانه:
(قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) وأداة الاستفهام تنطوي على التوبيخ المنقرع لمثل هذه الطبائع الفاسدة ،وهي طبائع لا ترتضي ولا تهنأ بكريم العيش ،ولكنها تظل على الدوام نزاعة للخسائس ،ورحم الله الحسن البصري إذ يقول في يهود وهو يعرض لتبيين هذه الآية بالذات: كانوا نتانى أهل كرات وأبصال وأعداس ،فنزعوا الى عكرهم عكر السوء ،واشتقات طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا: لن نصبر على طعام واحد .
قوله: (أدنى) من الفعل دنا يغير همز ومنه الدنو أي قلة الثمن ،والدناوة أو الدون وذلك يقال للخسيس من الأشياء أما الفعل المهموز دنأ فهو من الدناءة أي اللؤم والخبث كمما قال بعض اللغويين ،فجاءهم الرد بعد هذا المطلب الغريب البطر بأن يهبطوا مصرا ،وفي قوله: ( مصرا) جاءت عدة أقوال أهمها قولان: أحدهما أن المقصود بذلك أي مصر من الأمصار على غير تعيين خصوصا وأن مصرا قد وردت في الآية منكرة مصرفة على التنوين ،وذلك الذي عليه جمهور المفسرين ،وذهب آخرون الى أن المقصود هي مصر فرعون واستدلوا على ذلك بما جاء في القرآن من توريث الله لبني إسرائيل ملك فرعون في مصر ،والراجح عندنا هو القول الأول وذلك ما يقتضيه ظاهر الآية في الأمر بدخول القرية علما بأنهم سكنوا الشام بعد ذلك ،فضلا عن إيراد الكلمة (مصرا) هكذا منونة مصروفة .
قوله: (فإن لكم ما سألتم) ذلك قرار من الله بإعطائهم ما طلبوا من خسيس الطعام ،وهكذا قد امتن الله على بني إسرائيل بإعطائهم ما سألوا لكنهم بطروا ذلك كله ،وآلوا إلا أن يظلموا مدبرين لا يلوون على شيء من التورع أو الامتثال أو الشكران .فما عادوا بعد ذلك ليستأهلوا شيئا من الإعفاء أو التكريم إلا المهانة والهوان والتشتيت في الأرض شذر مذر ،ومن أجل ذلك قال سبحانه: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) .
وهذه كلمة الله التي تحمل القرار الرباني الحاسم ،وهو قرار إلهي مقدور لا يقبل التعقيب ،جاء ليعلن للأرض أن هؤلاء القوم قد ضرب الله عليهم الضعف والهوان ليسيروا في الأرض غير أعزاء ولا كرماء ولتحيط بهم غواشي المسكنة ،والمسكنة من السكون وهو ذهاب الحركة ،ومنه المسكين سمي بذلك لقلة حركته وسكونه الى الناس ،ومنه الفعل استكاتن أي خضع وذل .
قد ضرب الله الذل والهوان على بني إسرائيل ليكون ذلك ديدنا لهم يتوارثونه كابرا عن كابر ليحيوا حياة الاستكانة والتدسس ،والخور ،وليكونوا أبد الدهر في شق المنافقين والأشرار من الناس ،وليكونوا في طليعة الذين يتآمرون على البشرية في أروع ما تملك من عقائد وقيم ،وذلك لكي تتبدد هذه المبادىء والقيم فتستحيل البشرية إلى ركام من الخلائق الضالة الممسوخة ،ولتغيب عن وجه الأرض شمس الخير فتستطير بعد ذلك أصوات الشر والباطل والفساد .
ولئن تحقق لبني إسرائيل على مدار الزمن بعض الظهور والتسلط ،فإن ذلك لا يحمل أية منافاة لقرار الله بضرب الذلة والمسكنة عليهم ،ولكن مثل هذا الظهور أو التسلط ليس إلا انعطافا عابرا من مستثنيات الأحداث الشاذة التي يطويها التاريخ في مسيرته الطويلة أو هو مجرد التواء عارض مقدور ،ربما يؤثر في عجلة الزمن الدائر بعض التأثير ،وهو تأثير يحسب في عداد القضايا النادرة المستثناة التي تند من قواعد الأشياء الأساسية ندا والتي تطفو على سطح الأحداث لتمر بغير وزن أو حساب ،ثم تبوء الحياة بعد ذلك الى سابق عهدها في الأصالة الثابتة والاستقرار الدائم .
وقوله: (وباءوا بغضب من الله) باء بمعنى رجع من البوء وهو الرجوع ومنه المباءة بمعنى أقر واعترف ،نقول: باء الحق أو الشيء معناه أقر به وألزم نفسه به ،{[68]} وهكذا باء بنو إسرائيل بغضب من الله أي رجعوا وانقلبوا يحملون على كواهلهم وجباههم غضبا من الله ،والغضب هو شدة المقت ،نعوذ بالله عوذا يجنينا مقت الله وغضبه ،ويباعد بيننا وبين أن نبوء بالآثام والمعاصي .
قوله: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير الحق) وذلك تعليل لضرب الذلة والمسكنة عليهم ولبوؤهم بغضب الله ،فقد حق ذلك العذاب كله عليهم بسبب ما اقترفوه من جرائم شنيعة نكراء ،منها كفرهم بآيات الله ،وآياته تشمل كتابه المنزل عليهم من السماء ،لهدايتهم وصلاحهم وتشمل كذلك المعجزات التي أوتيها النبيون لتكون لهم علامات واضحة تشهد على نبوتهم وصدق ما يقولون .
ومنها كذلك قتلهم النبيين ،ومفردها النبي وهو من الفعل نبأ وأنبأ أي أخبر ،والنبأ هو الخبر ،ومنه النبوة وأصلها النبوءة ومعناها الإخبار عن الغيب من طريق الوحي ،وقيل نبأ الشيء نبوء بمعنى ارتفع فكأن المقصود بالنبوة السمو والارتفاع .{[69]}
وهذه جريمة بشعة تضاف الى عداد الجرائم التي قارفها بنو إسرائيل وهي قتلهم النبيين بغير حق ،ولا ينبغي أن يؤخذ بالمفهوم المخالف هنا ليظن خطأ أن النبيين يمكن أن يقتلوا بالحق ،وذلك فهم فاسد لا يستقيم ،فإن قوله: (بغير الحق) لهو مجرد وصف لجريمة اليهود وهي أنهم كانوا يقتلونهم ظلما وعدوانا ،ولا يعني ذلك أنهم يجوز قتلهم إن أخطأوا فهم أصلا معصومون عن الخطايا كافة في قول أكثر أهل العلم .
ومن المعلوم أن قتل الإنسان ،المؤمن لهو من كبريات الكبائر التي تورد المقترف الجاني مور جهنم ،فكيف بالقتيل إذا كان نبيا من النبيين الأطهار الذين قدسهم الله وعصمهم عصمة تحول بينهم وبين الخطايا والآثام ؟فلعمر الحق إن جريمة بني إسرائيل فظيعة مريعة ترجف لهولها وبشاعتها القلوب والأبدان ،خصوصا إذا وقفنا على بعض أخبار تذهب الى أنهم كانوا يقتلون النبيين بالجملة كل يوم ،حتى إنهم كانوا يبلغون بضع عشرات يقتلون مرة واحدة ،فيا لهول الجريمة ،وا لفداحة العدوان النكير الذي تهتز لشدته السماوات والأرض .
وقوله: (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (ذلك اسم إشارة وهو تأكيد للمشار إليه مرة أخرى وهو علة ضرب الذلة والمسكنة عليهم ثم بوؤهم بالغضب من الله ،كل ذلك كان علته عصيانهم وعدوانهم (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) .