يقول تعالى:واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى ، طعاما طيبا نافعا هنيئا سهلا واذكروا دبركم وضجركم مما رزقتكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنية من البقول ونحوها مما سألتم . وقال الحسن البصري رحمه الله:فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه ، وكانوا قوما أهل أعداس وبصل وبقل وفوم ، فقالوا:( يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) [ وهم يأكلون المن والسلوى ، لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو كأكل واحد] . فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة . وأما الفوم فقد اختلف السلف في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء ، وكذلك فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم ، عنه ، بالثوم . وكذا الربيع بن أنس ، وسعيد بن جبير .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله:( وفومها ) قال:قال ابن عباس:الثوم .
قالوا:وفي اللغة القديمة:فوموا لنا بمعنى:اختبزوا . وقال ابن جرير:فإن كان ذلك صحيحا ، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم:وقعوا في عاثور شر ، وعافور شر ، وأثافي وأثاثي ، ومغافير ومغاثير . وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما ، والله أعلم .
وقال آخرون:الفوم الحنطة ، وهو البر الذي يعمل منه الخبز .
قال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنبأنا ابن وهب قراءة ، حدثني نافع بن أبي نعيم:أن ابن عباس سئل عن قول الله:( وفومها ) ما فومها ؟ قال:الحنطة . قال ابن عباس:أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول:
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن جرير:حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا مسلم الجرمي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن رشدين بن كريب ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قول الله تعالى:( وفومها ) قال:الفوم الحنطة بلسان بني هاشم .
وكذا قال علي بن أبي طلحة ، والضحاك وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم:الحنطة .
وقال سفيان الثوري ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وعطاء:( وفومها ) قالا وخبزها .
وقال هشيم عن يونس ، عن الحسن ، وحصين ، عن أبي مالك:( وفومها ) قال:الحنطة .
وهو قول عكرمة ، والسدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم ، والله أعلم .
[ وقال الجوهري:الفوم:الحنطة . وقال ابن دريد:الفوم:السنبلة ، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز . قال:وقال بعضهم:هو الحمص لغة شامية ، ومنه يقال لبائعه:فامي مغير عن فومي] .
وقال البخاري:وقال بعضهم:الحبوب التي تؤكل كلها فوم .
وقوله تعالى:( قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنية مع ما هم فيه من العيش الرغيد ، والطعام الهنيء الطيب النافع .
وقوله:( اهبطوا مصرا ) هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور بالصرف .
قال ابن جرير:ولا أستجيز القراءة بغير ذلك ؛ لإجماع المصاحف على ذلك .
وقال ابن عباس:( اهبطوا مصرا ) قال:مصرا من الأمصار ، رواه ابن أبي حاتم ، من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان ، عن عكرمة ، عنه .
قال:وروي عن السدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس نحو ذلك .
وقال ابن جرير:وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود:اهبطوا مصر من غير إجراء يعني من غير صرف . ثم روى عن أبي العالية ، والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون .
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية ، وعن الأعمش أيضا .
وقال ابن جرير:ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضا . ويكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف ، كما في قوله تعالى:( قواريرا قواريرا ) [ الإنسان:15 ، 16] . ثم توقف في المراد ما هو ؟ أمصر فرعون أم مصر من الأمصار ؟
وهذا الذي قاله فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره ، والمعنى على ذلك لأن موسى ، عليه السلام يقول لهم:هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ؛ ولهذا قال:( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) أي:ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه ، لم يجابوا إليه ، والله أعلم
يقول تعالى:( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) أي:وضعت عليهم وألزموا بها شرعا وقدرا ، أي:لا يزالون مستذلين ، من وجدهم استذلهم وأهانهم ، وضرب عليهم الصغار ، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون .
قال الضحاك عن ابن عباس في قوله:( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) قال:هم أصحاب النيالات يعني أصحاب الجزية .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله تعالى:( وضربت عليهم ) قال:يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقال الضحاك:( وضربت عليهم الذلة ) قال:الذل . وقال الحسن:أذلهم الله فلا منعة لهم ، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين . ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية .
وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي:المسكنة:الفاقة . وقال عطية العوفي:الخراج . وقال الضحاك:الجزية .
وقوله تعالى:( وباءوا بغضب من الله ) قال الضحاك:استحقوا الغضب من الله ، وقال الربيع بن أنس:فحدث عليهم غضب من الله . وقال سعيد بن جبير:( وباءوا بغضب من الله ) يقول:استوجبوا سخطا ، وقال ابن جرير:يعني بقوله:( وباءوا بغضب من الله ) انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال:باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر ، يقال منه:باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء . ومنه قوله تعالى:( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ) [ المائدة:29] يعني:تنصرف متحملهما وترجع بهما ، قد صارا عليك دوني . فمعنى الكلام إذا:فرجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم من الله سخط .
وقوله تعالى:( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ) يقول تعالى:
هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة ، وإحلال الغضب بهم بسبب استكبارهم عن اتباع الحق ، وكفرهم بآيات الله ، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم ، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم ، فلا كبر أعظم من هذا ، إنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق ؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:الكبر بطر الحق ، وغمط الناس .
وقال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، عن حميد بن عبد الرحمن ، قال:قال ابن مسعود:كنت لا أحجب عن النجوى ، ولا عن كذا ولا عن كذا قال:فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته من آخر حديثه ، وهو يقول:يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أن أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي ؟ فقال:لا ليس ذلك من البغي ، ولكن البغي من بطر - أو قال:سفه الحق - وغمط الناس . يعني:رد الحق وانتقاص الناس ، والازدراء بهم والتعاظم عليهم . ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتل أنبيائهم ، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد ، وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقا .
قال أبو داود الطيالسي:حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن عبد الله بن مسعود ، قال:كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار .
وقد قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبان ، حدثنا عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي ، أو قتل نبيا ، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين .
وقوله تعالى:( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به ، أنهم كانوا يعصون ويعتدون ، فالعصيان فعل المناهي ، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه أو المأمور به . والله أعلم .