هذا ما أمرهم ربهم ، أمرهم بالدخول خاشعين ساجدين ، وأن يقولوا حطة أي حط عنا ذنوبنا ، ولكنهم قد تعودوا المعصية وألفوها:غيروا الألفاظ ، وبدلوها إلى ألفاظ تدل على نقيض معناها ، وكذلك دائما شأن العصاة المذنبين وخصوصا بني إسرائيل ؛ ولذلك قال الله تعالى:{ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم} لقد قيل لهم قولوا حطة أي حط عنا يا ربنا ذنوبنا ، ولا تعذبنا بما فعلنا واعف عنا ، بدلوا هذه الكلمات الضارعة الخاشعة إلى كلمة أخرى قريبة اللفظ ولكن فيها معنى مغاير ، فقالوا ( حنطة ) أي أنهم بدل أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالضراعة توجهوا إليه بطلب المادة ، والحنطة هي القمح ، يتركون الضراعة التي هي نعمة التقوى إلى طلب القوت ، وفي ذلك عدول عن إرضاء الله تعالى إلى طلب ما يرضي أهواءهم ، ويشبع شهوات بطونهم ، وفوق ذلك فيه تلاعب بأمر الله تعالى ونهيه ، واستهزاء بأوامر ربهم ، وتحريف للقول عن مواضعه ، كما فعلوا من بعد موسى عليه السلام ، إذ حرفوا القول عن مواضعه ، وضلوا ضلالا بعيدا . وذكر الله تعالى الموصول ، فقال:{ الذين ظلموا} ، فأظهر في موضع الإضمار للإشارة إلى أن الدافع لهم على التغيير والتبديل في أمر الله تعالى أو نهيه هو ظلمهم وإلحادهم في دين الله تعالى .
وقد عاقبهم الله تعالى فأنزل العذاب بهم فقال تعالى:{ فأنزل على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( 59 )} الرجز هو العذاب ، أو هو الرجس ، والرجز قاذورات النفس وفسادها ، وقد أصابهم الله تعالى بالأمرين ففسدت نفوسهم إلا أن يتوبوا ، وأنزل الله تعالى عذابه بهم إذ جعلهم أذلاء مستضعفين في الأرض إلا أن يتسربلوا سربال التقوى ، ويسيروا في طريق العزة ، ويهجروا أسباب الذل .
والرجز قسمه الأصفهاني في مفرداته إلى قسمين:رجز ينزل بسبب أعمال الإنسان من عصيان للرب ، ومخالفة لأوامره ، وسوء تدبيره ، وهذا عذاب الله تعالى ، ورجز ينزل بلاء من الله ، واختبارا يصهر نفوسهم ، كطاعون ينزل بهم ، أو إهلاك للحرث والنسل ، أو ضرب الذلة عليهم .
وقد أصاب الله تعالى بني إسرائيل بالنوعين من الرجز فعذبوا في الحياة الدنيا رجاء أن يتوبوا ويهتدوا ، وأصيبت نفوسهم بالذلة ، التي ضربت عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس ، ونزلت بهم الآفات البشرية .
وذكر سبحانه وتعالى أن السبب في ذلك ظلمهم وفسقهم ، فأما الظلم فبينه سبحانه بالإظهار في موضع الإضمار إذ قال:{ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء} والتعبير بالموصول يفيد أن الصلة سبب لما أنزل الله تعالى من رجز ، وهذا بيان للسبب بالإشارة ، أما فسقهم فقد بين سبحانه سببيته بصريح اللفظ الكريم ، فقال:{ بما كانوا يفسقون} أي بسبب أنهم يفسقون ، و{ كانوا} دالة على الاستمرار ، والتعبير بالمضارع يفيد أن فسقهم على دوامه يتجدد وقتا بعد آخر فكلما تاب عليهم فسقوا مرة أخرى .
والفسق هو الخروج ، يقال فسقت الفأرة خرجت من جحرها ، وفسق الثمر خرج ، فهؤلاء يخرجون عن الحق ، ويسيرون وراء الباطل سيرا متجددا مستمرا آنا بعد آن .
وذكر الله تعالى أن الرجز من السماء إشارة إلى أنه يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يظنون ، وأنه من الله العزيز الحكيم ، فإن ما يكون من السماء مغيب لا يعلم متى يجيء ولا من أي جهة يجيء .