كان بنو إسرائيل يعيشون في صحراء سيناء مع موسى عليه السلام ، وقد أنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى ، فأكلوا منها رزقا طيبا ، وما كان يمكن أن يبقى ذلك رزقا دائما ، وإن كان ذلك ممكنا سائغا في ذاته ، ولكن لأنهم برمون متململون مما يرزقهم الله تعالى رتيبا مستمرا ، بل إنهم يطلبون التغيير .
والقرية هي المدينة العظيمة الجامعة لعدد كبير من السكان ، من قرى بمعنى جمع ؛ ولذلك أطلق على مكة أنها قرية وأم القرى ، ولم يبين القرآن الكريم ما هي هذه القرية ، لم يرد في القرآن ما يبين عين هذه القرية أهي الأرض المقدسة أم هي قرية قريبة أمرهم موسى بالدخول فيها ، وإن الذي نفهمه من النص والسياق أنها قرية ليست بعيدة عن صحراء سيناء ، وأن ذلك في عهد موسى عليه السلام .
أما أنها قريبة ليست بعيدة فقد أخذناه من الإشارة ، فقد أشير إليها بالإشارة الدالة على القرب ، وهي "هذه"، فهي لا بد أن تكون قريبة ، والنص يدل على أنهم دخلوها ، وقد عصوا أمر ربهم الذي أمر به عند دخولهم .
وأما أنها كانت في عهد موسى عليه السلام ، ولم يكن قد فارقهم بالموت ، فإن ذلك يثبت من سياق القول ؛ لأن موسى عليه السلام من قبل الأمر بالدخول كان هو الذي يخاطبهم بأمر الله تعالى ، ومن بعد الأمر بالدخول هو الذي كان يخاطبهم ويخاطبونه ، فلم يكن من مقتضى ذلك أن يكون الدخول ، وقد انقضى عهد موسى عليه السلام ، وجاء غيره .
وعلى ذلك نقول إن الله سبحانه وتعالى أبهم ذكر هذه القرية ، ولا نتعرض لبيان ما أبهمه الله تعالى ، ولم يذكره نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت قول عن أصحابه الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم النبوة ليبلغوه للناس ، وإن القول في هذه القرية ما هي ؟ داخل في النهي في قوله تعالى:{ ولا تقف ما ليس لك به علم . . . ( 36 )} [ الإسراء] .
ولكن قال بعض العلماء إنها أريحا ، أو بعض بلاد في الأردن ، ورجح الأكثرون وقالوا إنه القول الصحيح أنها بيت المقدس التي كتب الله تعالى لهم أن يدخلوا ، وقالوا إن ذلك ذكر في القرآن في سورة المائدة ، إذ قال تعالى:{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ( 20 ) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ( 21 ) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ( 22 ) قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله توكلوا إن كنتم مؤمنين ( 23 ) قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ( 24 ) قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ( 25 ) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ( 26 )} [ المائدة] .
وإني وإن كنت لا يمكنني أن أعين قرية بعينها ، فإني لا أختار أنها الأرض المقدسة ؛ وذلك لأن الإشارة إلى القرية كانت إلى قرية قريبة ، ولأن الأرض المقدسة لا تذكر بهذا الإبهام المستغرق ، ولأن ما حدث منهم من تبديل القول يدل على قرب عهدهم بالكفر ، وأنه لم يكن التيه الذي يقوي شكيمتهم ، لأنه إذا كانت بيت المقدس ، فإن دخولهم فيها بعد التيه كان على يد سيدنا يوشع عليه السلام .
وإننا ننتهي إلى هذه القرية ، وليست في هذه القرية عبرة خاصة توجب معرفتها إذا كانت القرية ، إنما يكفي في التعريف بها أنها كانت ذات رزق راغد ، وعيش واسع ؛ ولذلك قال تعالى:{ فكلوا منها حيث شئتم رغدا} أي فكلوا أي أكل تشاءونه رغدا في هذه القرية ، فلا تقتصرون على المن والسلوى ، كما أنزل الله تعالى رحمة بكم ، وهما أطيب الطعام وأشهاه وأمرؤه ، وأهنؤه ، كلوا أي أكل شئتم من الحلال رغدا واسعا كثيرا .
ثم أمرهم سبحانه أن يدخلوا الباب لهذه القرية خاشعين خاضعين ، شاكرين لنعمة الله تعالى التي أنعم بها عليهم طالبين غفران خطاياهم ، فقال تعالى:{ وادخلوا الباب سجدا} أي ساجدين شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليكم وأن أخرجكم من الظلمات إلى النور ، ومن الذل إلى العز ، ومن الظلم المرهق إلى العدل المنصف ، وأن أعطاكم ما تحبون من طيب العيش ، وما تشتهون من حلال .
{ وقولوا حطة} أي حط عنا ذنوبنا ، وتغمدنا برحمتك والتوبة إليك ، وإن الله رتب على خضوعهم ، وشكرهم لنعمة الله تعالى ، وطلبهم من الله تعالى أن يحط عنهم ذنوبهم ، ويخلعوها متبرئين ، ويتطهروا ، رتب على ذلك غفران خطاياهم فقال تعالى:{ نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ( 58 )} .
ومعنى نغفر لكم أي نستر ذنوبكم ثم نرفعها عنكم ، ووعد الله تعالى بأنه سيزيد المحسنين خيرا وبركة ، والمحسن هو من أتقن وأجاد فعل الخير ، والمعنى أن الله تعالى يغفر لهم ما ارتكبوا من آثام كبيرة كانوا قد تعودوها حتى صارت خطايا ، يغفرها ، سبحانه وتعالى ، ثم وعد سبحانه ووعده الحق أنه سيزيد المحسنين ، وينعم عليهم بالتوفيق إذا تابوا وآمنوا ، ويجزيهم أحسن الجزاء .
والخطايا جمع خطيئة ، وهي الذنوب التي تتكاثر ، حتى يفعل الذنب ، وكأنه يقع منه من غير قصد إليه لتمرسه به ، وقساوة نفسه وقلبه ، كما قال تعالى:{ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 81 )} [ البقرة] .
ويقول الخليل بن أحمد في تصريف خطايا إنها جمع خطيئة ، أصلها خطائي ، ثم قلبت الياء ألفا ، كما قلبت في قوله تعالى:{ يا أسفى على يوسف . . . ( 84 )} [ يوسف] فصارت خطاءا ، ثم قلبت الهمزة ياء لأنها صارت بين ألفين ، وذلك تسهيل في النطق .