{ ( 58 ) وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ( 59 ) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون} .
المراد بالقرية المدينة ، وهي في الأصل اسم لمجتمع الناس ومسكن النمل الذي يبنيه ومادتها تدل على الاجتماع ، ومنها قريت الماء في الحوض إذا جمعته وأطلقت على الأمة نفسها:ثم غلب استعمالها في البلاد الصغيرة ولا يصح هنا فإن الرغد لا يتيسر للإنسان كما يشاء إلا في المدن الواسعة الحضارة ، ( قال شيخنا ) ونسكت عن تعيين القرية كما سكت القرآن فقد أمر بني إسرائيل بدخول بلاد كثيرة وكانوا يؤمرون بدخولها خاشعين لله خاضعين لأمره مستشعرين عظمته وجلاله ونعمه وأفضاله وهو معنى السجود وروحه المراد هنا .
وأما صورة السجود من وضع الجباه على الأرض فلا يصح أن تكون مرادة لأنها سكون والدخول حركة وهما لا يجتمعان .والمراد بالحطة الدعاء بأن تحط عنهم خطايا التقصير وكفر النعم .وتبديل القول بغيره عبارة عن المخالفة كأن الذي يؤمر بالشيء فيخالف قد أنكر أنه أمر به وادعى أنه أمر بخلافه .يقال بدلت قولا غير الذي قيل .أي جئت بذلك القول مكان القول الأول .
وهذا التعبير أدل على مخالفة والعصيان من كل تعبير خلافا لما يتراءى لغير البليغ من أن الظاهر أن يقال .بدلوا القول بغيره دون أن يقال ، غير الذي قيل لهم ، فإن مخالف أمر سيده قد يخالفه على سبيل التأويل مع الاعتراف به ، فكأنه يقول في الآية إنهم خالفوا الأمر خلافا لا يقبل التأويل ، حتى كأنه قيل لهم غير الذي قيل .وليس المعنى أنهم أمروا بحركة يأتونها ، وكلمة يقولونها ، وتعبدوا بذلك وجعل سببا لغفران الخطايا عنهم فقالوا غيره وخالفوا الأمر ، وكانوا من الفاسقين .وأي شيء أسهل على المكلف من الكلام يحرك به لسانه ، وقد اخترع أهل الأديان من ذلك ما لم يكلفوا قوله لسهولة القول على ألسنتهم ، فكيف يقال أمر هؤلاء بكلمة يقولونها فعصوا بتركها ؟ إنما يعصى العاصي إذا كلف ما يثقل على نفسه ويحملها على غير ما اعتادت ، وأشق التكاليف حمل العقول على أن تفكر في غير ما عرفت ، وحث النفوس على أن تتكيف بغير ما تكيفت .
وذهب المفسر ( الجلال ) إلى ترجيح اللفظ على المعنى والصورة على الروح ففسر السجود ككثير من غيره بالانحناء ، وقال إنهم أمروا بأن يقولوا ( حطة ) فدخلوا زحفا على أستاههم وقالوا:حبة في شعيرة:أي أننا نحتاج إلى الأكل ومنشأ هذه الأقوال الروايات الإسرائيلية ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خدع بها المفسرون ولا نجيز حشوها في تفسير كلام الله تعالى .
وأقول إن ما اختاره الجلال مروي في الصحيح ولكنه لا يخلو من علة إسرائيلية وسنبين ذلك في تفسير المسألة من سورة الأعراف مع المقابلة بين العبارات المختلفة في السورتين وبيان وجوهها ؛ وتحقيق معاني ألفاظها .