/م54
بعد هذا ذكر الله تعالى نعمة أخرى بل نعمتين من النعم التي من بها على بني إسرائيل فكفروا بها ولكنه لم يذكر ما كان به الكفران ، بل طواه وأشار إليه بما ختم به الآية من أنهم لم يظلموا الله تعالى بذلك الذنب المطوي وإنما ظلموا أنفسهم ، وهذا أسلوب آخر من أساليب البيان في التذكير وضرب من ضروب الإيجاز التي هي أقوى الإعجاز .
أما النعمة الأولى فقوله تعالى{ وظللنا عليكم الغمام} قال الأستاذ الإمام:هذه نعمة مستقلة متصلة بما قبلها في سياق الذكرى ، منفصلة عنها في الوقوع ، فإن التظليل استمر إلى دخولهم أرض الميعاد ، ولولا أن سياق الله إليهم الغمام يظللهم في التيه لسعفتهم الشمس ولفحت وجوههم .وقال لا معنى لوصف الغمام بالرقيق كما قال المفسر ( الجلال ) وغيره ، بل السياق يقتضي كثافته إذ لا يحصل الظل الظليل الذي يفيده حرف التظليل ، إلا بسحاب كثيف بمنع حر الشمس ووهجها .وكذلك لا تتم النعمة التي بها المنة إلا بالكثيف وهو المنقول المعروف عند الإسرائيليين أنفسهم وأما النعمة الثانية ففي قوله تعالى{ وأنزلنا عليكم المن والسلوى} ما منح من الله تعالى يسمى إيجاده إنزالا ومنه{ وأنزلنا الحديد} على أن المن ينزل كالندى وهو مادة لزجة حلوة تشبه العسل تقع على الحجر وورق الشجر مائعة ثم تجمد وتجف فيجمعها الناس ، ومنها الترنجبين وبه فسر المن مفسرنا وغيره .وأما السلوى فقد فسروها بالسماني وهو الطائر المعروف فمعنى النزول يصح فيه على حقيقته أيضا .وظاهر أن قوله تعالى{ كلوا من طيبات ما رزقناكم} مقدر فيه القول .وفي ( سفر الخروج ) أن بني إسرائيل أكلوا المن أربعين سنة وأن طعمه كالرقاق بالعسل ؛ وكان لهم بدلا من الخبز وليس المراد أنه لم يكن لهم أكل سواه إلا السلوى فقد كان معهم المواشي ولكنهم كانوا محرومين من النبات والبقول كما يعلم مما يأتي وفي قوله تعالى{ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} تقرير لقاعدة مهمة وهي أن كل ما يطلبه الدين من العبد فهو لمنفعته ، وكل ما ينهاه عنه فإنما يقصد به دفع الضرر عنه ، ولن يبلغ أحد نفس الله فينفعه ، ولن يبلغ أحد ضره فيضره ، كما ثبت في الحديث القدسي .فكل عمل ابن آدم له أو عليه{ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} .